الخميس: 25/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

في 2003 ما علق في ذاكرتي من الانتفاضة "ولم ينته شيء"

نشر بتاريخ: 02/10/2019 ( آخر تحديث: 02/10/2019 الساعة: 16:06 )

الكاتب: روند حرزالله
كان قلبي ينتفض، كلاب الأثر تتوغل تحت بيت جدي، " إنهم قادمون" قالوا، بلمحات البصر كانت تحصل المعجزات والأجساد في المنزل تتحرك بعنف وهستيريا أمام جسدي الصغير، شعرت أنني بؤرة الدوامة، إنهم يبحثون عن شابٍ وسيم تتعطش الأرض لقدميه، ويتعطش الجنود لقتله، يا ترى ماذا يفعل خالي يا أُمي لكي يكرهه الجنود هكذا ؟ ولماذا يتسلل لرؤيتنا خفية ؟ .. جدتي لا تتوقف عن الجلوس في الخارج، تبحث باستمرار عن عينيها، الطريق الذي سيجيء منه هو عينيها.
 في الليالي العطشى تنهال الضرباتُ على باب منزلنا في "حارة المطوي " تلك التي خفيت الكثير من ملامحها أثناء الانتفاضة الأولى، عندما اضطر جدي من جهة الأب أن يبيع كل دجاجاته ويسكن عائلته في المزرعة، تمتد الضربات لتصل أخر منزل في حيّ العائلة الصغير منزل " أبو عدي " نخرج في بيجاماتنا حاملين عيوننا الناعسة صفوفًا مُرتبكة نحو ما كنا نطلق عليها " الحاكورة " الواسعة التي تفصل حيّنا عن الشارع، أسمع صوت عويل خفيف إلى جانبي، الصغار يبولون على قدميّ عمي حسن الإثنتين، العيون تترقب المُنتظر، إنهم الأن يبحثون عن عمي " رزق " لقد قتل جنودًا، قتل غضبه حاملًا حريته راكضًا نحو المُنتهى، تكررت الليالي الباردة التي نخرج فيها إلى " الحاكورة " وكل يوم تكثر كلاب الأثر، وكل يوم يُغرق الأطفال العم حسن بالبول، أذكر يومًا أثناء الظهيرة بدأ القصف على مناطق في الضفة كنت وأختي في المدرسة، أذكر مريولي الأزرق والتجمع الكبير على " البسطة " الكبيرة بين بيت عمي أبو المجد وعمي رزق، يطن في ذاكرتي صوت المسنة بثوبها المطرز تدعو باستمرار وتكرر " حسبي الله ونعم الوكيل" أبدأ في البكاء على كل الأشياء غير المفهومة. أين خالي، أين عمي، وأبي ؟ متى سيخرج من السجن. كانت أياما خصبة بالمقاومة، كُلُ واحدٍ منا كان يقاوم بطريقته الخاصة. لا أدري ما قصة ساندويش البندورة التي كنت أطلبها باستمرار في أسوء الأيام واللحظات دون كلل، لحظة خبر استشهاد خالي بدر، دُق هاتف أُمي، كان الوقت ليلًا، القلق يعبر مثل ناموس، عباءة أمي السوداء على الكنبة تعلم بذلك، الليل يعلم، قلب أمي، وساندويش البندورة الذي في يدي، سقطت أرواحنا على درجات المنزل، ضممت جسدي الصغير على الدرجات الثالثة، ويبدو أن أُمي تلاشت في كحل الليل مع عباءتها، نعم قتلوه، وانفلت قطارنا نحن الأحياء، وأصبح الكون خفيفًا فينا وأجسانا ثقيلة مثل شاحنة، جسده الفارع عند الباب المقوس في بيت جدي يرتدي بنطاله الجينز مسرعًا يُسكت عتابات جدتي بالقُبلات ويرحل، لقد كانت المرة الأخيرة!
أذكر بقع الدم الكبيرة على منزل عمي أبو فادي على الجدار والأرض، أول مرة تسبح فيها عيناي في بركة دمٍ حمراء، لقد لُطخ قلبي بالأثر، مُحاولة الاختباء في أي حضن، اليوم سافر عمي رزق رحلته الأبدية، انتهت مسيرته الجسدية عند بقعة الدماء تلك تاركًا زوجته تواجه رصاصة خرجت من فوه أفعى جندي إلى قدمها. في هذه الأثناء كان أبي يُصارع وحدته في زنزانته وخبر استشهاد أخيه، كم حضنتك الزوايا النتنة يا أبي، وكم كنت قويًا، لم يجف حبره عن الكتابة لنا رسائلًا وقبلات لا تنتهي، نتابع الإذاعة دون توقف، ننتظر قوائم أسماء المعتقلين الذين سيتم الإفراج عنهم، كانت أُمي تُحضّر العجين والحب والسجائر في حقيبة كبيرة وتقول لي : راح نروح عند أبوكي بالسجن بكرة.
وكأنه العيد والليل الطويل لا ينتهي، ما كنت أفكر به في عقلي آنذاك عن اليهود أنهم لا يميزون بين كبير وصغير، ويضربون الجميع ويسرقون الحلوى من جيوب الأطفال، ويضعون حواجز كثيرة وكثيرة، فنتجمع كتلٌ كتل قبل أن ندخل إلى أحبائنا في السجون، وندخل كتلة بشرية مرة أخرى في داخل حاجز حديدي تدور حوله بحركة دائرية كي تعبر، وبخبث الأطفال عندما كان أبي يتصلُ بنا على الهاتف ويُحدثني كنت أطلب منه مئات الطلبات والطلبات، ويأتيني صوته الحنون من زاوية يدفع فيها المرء ثمن صوته وثمن نفسه. وصلتنا رسائل كثيرة منه لم أفهم منها شيئًا، وصلنا سجن النقب، الجو خانقٌ، أتذكر يومها أننا دخلنا إلى أبي خلسة، بقي قلبي ينبض بشيء أشبه بالطبلة الصاخب وبقيتُ أتسائل من هذا الذي أشغل الجندية التي على المكتب كي نعبر إلى أبي !
كانوا هنا قبل أن يفيق فجرٌ أخر على العالم، صنعوا فجرهم الخاص، انتهت مسيرتهم، ولم ينته شيء.