الخميس: 25/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

خواطر ممرضة في زمن كورونا

نشر بتاريخ: 14/05/2020 ( آخر تحديث: 14/05/2020 الساعة: 15:55 )

الكاتب: أ. عطاف مقبول

يقف اليوم خلف الأبواب المؤصدة والأقسام الموحشة في مشافي وعيادات هذا الوطن زملائي اليوم وابنائي وطلابي بالأمس، بأدواتهم البسيطة وقلوبهم المثقلة بالذكريات والرجاء، يحاربون عدوًا متربصا بهم من كل جانب ينقض عليهم بأي لحظةٍ ان هم تغافلوا. يقفون متدثرين بأقنعتهم الواقية التي هي تروسهم في هذه الحرب؛ متسلحين بعلمهم وصلواتهم ونكرانهم لذواتهم، يخوضون حرباً بالنيابة عنا جميعًا لتشكيل الروايةً الفلسطينية في هذه الحرب العالمية على هذا العدو اللعين؛ والذي لحكمة الله تعالى تساوت أمامه الأقدار والمقامات والأجناس والاعراق والعدو والصديق والفقير والغني بين ليلة وضحاها. يا إلهي كم أنت عظيم في تجلياتك حتى وأنت تزهق أرواحنا!!

وان عدنا بالذاكرة الى ستينات القرن الماضي وما حولها؛ نستذكر كيف كان التمريض مهنة للمتردية والنطيحة يرتادها ضعاف القوم ماديًا ومعنويًا. كان الممرض جنديًا مجهولا محاصرًا بالألقاب مكبلًا بالأوصاف ينال مكانه بالجهد حينا وبدونه لتعذر البدائل أحيانا كثيرة، وبالقليل من العلم والمؤهلات دائمًا يسير بالأروقة كما الظل بدون ملامح وهوية متنكرًا لذاته ومهنته.

وعلى مدار العقود تغيرت هذه النظرة ببطء ولكن بثبات؛ فافتتحت كليات التمريض في معظم معاهد وجامعات الوطن وتغير المدرس والدارس؛ فأصبح الحاصلون على الدرجات العليا بامتحان الثانوية العامة يتنافسون على هذه المقاعد، ولم يكتفِ بعضهم بالدرجة الدنيا بل انطلقوا لينالوا أعلى الدرجات العلمية من الجامعات العالمية المرموقة.

وأصبح للممرض نقابة وللتمريض قَسَمٌ وأقسام وتخصصات، وفتحت أمام الممرض جميع الوظائف والمسميات والرتب يتقدم لها بلا مهابة أو وجل.

وعلى هذه الأرضية الملتبسة لا تملٌّ ذاكرتي من العودة للوراء عندما التحقت بكلية التمريض في جامعة القدس، متذكرةً أيام الدراسة والمحاضرات الطويلة المتعبة بما فيها من جد وهزل، ثم وقع خطواتنا الأولى في أروقة وساحات المشافي والعيادات خلال برامج التدريب العملي ثم تدريجي في العمل الصحي والتعليمي في مستشفى المقاصد، وتستوطن أيام الانتفاضة الأولى ذاكرتي حيث كان بين مرضانا الكثير من ضحايا الاحتلال من مختلف مدن وقرى فلسطين، وبين زوارنا الكثير من القيادات وقامات فلسطين. وايام المناوبات المرهقة وما يرافقها من فرح هنا لشفاء هذا وانكسار هناك لرحيل ذاك، وتماهي المشاعر بينك وبين مرضاك حزنا وبكاءً أو رجاء وتضرعًا يوم بيوم وأحيانا سريرا بسرير؛ يا إلهي من اين تمدنا بكل هذه الطاقة لتحمل ذلك!!!

ثم لملمت نفسي وذهبت في منحة دراسية الى اميركا لتحصيل درجة الماجستير أيام كان الذهاب الى الاردن مغامرة والمكالمة الهاتفية مع أهلك للاطمئنان من شهر لآخر موضوعا يحتاج برامج وخطط، ثم عدت للوطن للعمل في قسم التعليم المستمر في مستشفى المقاصد وبعدها لأدخل السلك التعليمي كمحاضرة في جامعة بيت لحم ثم عميدة لكلية التمريض فيها. وتمر بي الأيام لأجد زملائي وطلابي بأعلى المراكز هنا في الوطن وهناك في اقصى اصقاع الأرض مما زادني ايمانا وزهوا بهذه المهنة النبيلة.

وجاءت جائحة الكورونا فلبى الممرض نداء القسم بخوف ولكن بلا تردد، مقامرًا بحياته لخدمة أهله ووطنه، تاركًا خلفه عائلته ومحبيه متناسيا أحلامه وآماله، متحملًا ضغط العمل المكثف والبعد عن الأهل والخوف من المجهول وتحمل الممرض العبء الأكبر من دور القطاع الصحي في هذه الحرب بدون نكران لأدوار بقية الأطراف، وراوحت معاناة الممرض بين خوفه على نفسه ومحيطه وخوف محيطه منه.

وعندما نرى ونسمع قصص المعاناة والألم العابرة للدول والقارات متدفقة علينا من كل حدب وصوب والتي تتقطع لها القلوب الماً وحسرة، وعن معاناة المريض وأهله وساعة الفراق الاخيرة التي ليس فيها احضان او لقاء اخير بين الأحبة وشهادات الممرضين الذين بأحيان كثيرة صاروا هم المرضى. نشكر الله ان قيادتنا تحلت ببعد النظر وأخدت القرار الملائم بالوقت المناسب مما خفف من معاناتنا غير متناسين الأثر الاقتصادي والاجتماعي البالغ على الأسرة الفلسطينية متذكرين بإيمان ويقين المقولة الفلسطينية (بالمال ولا العيال).

وكلما رأيت ابنائي الممرضين يغدون جيئة وذهابا بزيهم الملائكي وخطواتهم الواثقة، يتراكضون بين الغرف باذلين قصارى جهدهم، محافظين على ابتسامتهم، محاولين بلسمة جراح المرضى وطمأنة الاهل الولهين لسماعي ما يهدي روعهم ويطمئنهم على احبتهم.

تذكرت قصيدة ملائكة الرحمة لشاعرنا ابراهيم طوقان.

بيضُ الحَمَائِـمِحَسْبُهُنَّهْ أَنِّي أُرَدِّدُ سَجْعَهُنَّـهْ

يَشْفـي العليـلَ عناؤُهُـنَّ وعَطْفُهُـنَّ ولُطْفُهُنَّـهْ

مُـرُّ الدَّواءِ بفيكَ حُلْوٌمن عُذوبَـةِ نُطْقِهِنَّـهْ

فأحببت ما فيها من معانٍ وتقدير للإنسان الممرض ورددت مع نفسي كلمات القسم وقلت كل يومٍ تمريض وكل عام وجميع الزملاء والطلبة والاصدقاء الممرضين/ ات بألف خير..