السبت: 20/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

المعركـة علـى القــدس

نشر بتاريخ: 23/04/2021 ( آخر تحديث: 23/04/2021 الساعة: 11:26 )

الكاتب: د. مصطفى البرغوثي




أظهرت الهبة الجماهيرية الرائعة لشبان القدس في وجه فاشية وعنصرية المستعمرين المستوطنين و جيش الاحتلال الذي يحميهم مركزية قضية القدس وتمركز المقاومة الشعبية الفلسطينية الجماهيرية فيها.
كما أعادت الانتخابات الفلسطينية قضية القدس إلى الواجهة السياسية، واحتدم النقاش على كيفية التعامل مع التهديدات الإسرائيلية بمنع إجراء الانتخابات فيها.
ومع أن هناك إجماع على الرفض الحازم لاستثناء القدس من الانتخابات الفلسطينية، يبدو واضحاً وجود اتجاهات مختلفة للتعامل مع المنع الإسرائيلي المحتمل، تتراوح بين تأجيل أو إلغاء الانتخابات إلى الإصرار على خوضها في القدس رغم أنف الاحتلال بجعلها معركة مقاومة شعبية، وبنشر صناديق الاقتراع في كل أنحاء القدس، دون انتظار إذن من الاحتلال، وتحويل تعديات الاحتلال عليها إلى فرصة لإدانة وفضح ممارسات الحكومة الإسرائيلية ضد الديمقراطية والحقوق الفلسطينية عالميا، وبذلك تحرم إسرائيل من امتلاك حق الفيتو على الانتخابات الفلسطينية عبر منعها في القدس.
يحاول العديد من الممثلين الدوليين إقناع الجانب الإسرائيلي بالسماح بإجراء الإنتخابات بنفس الطريقة التي جرت بها في أعوام 1996 و 2005 و 2006. غير أن تلك الترتيبات كانت مجحفة أيضاً إذ سمح فقط لعدد محدود من المقدسيين بالتصويت في مراكز البريد، وكأنهم يصوتون لبلد آخر. وتفاقم الأمر أكثر خلال الانتخابات الرئاسية عام 2005 والتشريعي عام 2006 بمنع الدعاية والنشاط الانتخابي دون الإعلان عن ذلك، وعايشت هذا الأمر شخصياً إذ اعتقلت أربع مرات خلال إنتخابات الرئاسة كلما حاولت الوصول للقدس والتفاعل مع المواطنين فيها، وتكرر الأمر معي ومع مرشحين آخرين في عام 2006.
الإصرار الفلسطيني على عدم استثناء القدس أمر مبدأي، ليس فقط لأن الاستثناء يعني التخلي عن القدس كعاصمة أبدية للشعب الفلسطيني وعن مكانتها ومقدساتها، بل أيضاً لأن هذه المعركة تدور بعد إعلان "صفقة القرن" ومحاولات إسرائيل، بموافقة أمريكية، تكريس ضم القدس وتهويدها، والاعتراف بها "عاصمة موحدة" لإسرائيل، وخاصة بعد أن نقلت السفارة الأمريكية لها، وشرعت دول بالتطبيع مع إسرائيل في إطارها.
لكن معركة القدس أكبر من قضية الانتخابات، فهي معركة مفتوحة تجري منذ النكبة عام 1948وعلى مدار أكثر من خمسين عاماً منذ احتل الجيش الإسرائيلي الجزء الشرقي منها عام 1967، ومنذ أن أعلنت إسرائيل ضم المدينة لإسرائيل في مخالفة لكل القوانين والشرائع الدولية.
المعركة تدور من بيت إلى بيت، ومن حي إلى حي، بين الشعب الفلسطيني والمقدسيين البواسل الصامدين في مدينتهم وبين حكام إسرائيل والحركة الصهيونية، التي تحاول بالقمع والتنكيل والمصادرة وهدم البيوت وحرمان الفلسطينيين من رخص البناء، واستخدام الأموال لتسريب بعض العقارات، تهويد المدينة وتزوير تاريخها.
والمعركة تدور عبر محاولات حثيثة لممارسة تطهير عرقي تدريجي لسكان المدينة الفلسطينيين، بفرض صفة المواطنة المؤقتة عليهم في مدينتهم منذ وقع الإحتلال، ومن ثم طردهم من مدينتهم ومنعهم من الإقامة فيها إن اضطروا لمغادرتها للدراسة أو العمل.
والأخطر من ذلك ما يجري من عمليات سلب حق المواطنة ومصادرة الهوية من آلاف المقدسيين الذين يضطرون للعيش خارج حدود المدينة بسبب منعهم من الحصول على تراخيص البناء، أو بسبب حاجتهم للعيش مع أفراد عائلاتهم الذين لا يملكون هويات مقدسية.
والمعركة على القدس تتجلى في إغلاق ومنع نشاط مئات المؤسسات الفلسطينية في مخالفة واضحة للاتفاقيات المعقودة، والتي خرقتها إسرائيل مراراً وتكراراً.
والمعركة تدور من خلال منع سكان الضفة الغربية وقطاع غزة من الوصول للقدس، إلا بتصاريح لأعداد محدودة.
والمعركة بدت واضحة هذا الأسبوع من خلال منع المصلين الفلسطينيين من الوصول للمسجد الأقصى لأداء صلاة الجمعة الأولى من شهر رمضان المبارك.
والمعركة تتجلى في ما يعانيه تجار القدس وأصحاب الأعمال فيها من ضرائب باهظة، بهدف جرهم للإفلاس، وترك محلاتهم ذات الأهمية الاستراتيجية في شوارع القدس القديمة العابقة بتاريخ فلسطيني عربي، وإسلامي ومسيحي، يريد المحتلون شطبه وتزويره.
الهجمة الإسرائيلية على الفلسطينيين تشمل كل مقدسي، باجباره في كل عام على إثبات وجوده ووجود عائلته بوثائق لا تُعد ولا تحصى وبأساليب بيروقراطية تعجيزية مصممة لترحيل الفلسطينيين في إطار التطهير العرقي التدريجي.
ويشمل ذلك منع الأزواج الفلسطينيين من العيش معاً، إن كان أحدهم يملك هوية مقدسية والآخر يحمل هوية الضفة الغربية ولو كانت المسافة بين سكنيهما بضعة كيلومترات، فجمع شمل العائلات في القدس معقد ومكلف وصعب للغاية، وان تجرأ من يحمل الهوية المقدسية على العيش مع زوجته أو زوجها خارج حدود القدس فسيفقد هويته المقدسية وحقه في المواطنة والعيش في مدينته التي عاشت فيها عائلته لمئات وربما آلاف السنين.
المعركة على القدس تدور في رحاب المسجد الأقصى، من خلال اقتحامات المستوطنين المستعمرين المتكررة له، كما فعل شارون بزيارته الشهيرة التي فجرت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ومن خلال منع أعمال الترميم، والصيانة فيه، والتعدي على حقوق الأوقاف الإسلامية في إدارته، كما جرى مؤخراً بمنع إقامة آذان العشاء في أول أيام شهر رمضان.
وهي ذات الاجراءات التي تستخدم ضد المسيحيين الفلسطينيين بمنعهم من الوصول إلى كنيسة القيامة والكنائس الأخرى في المدينة.
كما تدور في محاولات لا تتوقف من صهاينة متطرفين لإقامة هيكل مزعوم داخل ساحات المسجد الأقصى.
والمعركة على القدس تجري يومياً من خلال محاولات إسرائيل، جر دول للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارتها إليها، وتصدي الفلسطينيين لتلك المحاولات.
وتبدو واضحة في المقاومة الشعبية الفلسطينية الباسلة، التي شهدنا واحداً من أروع صورها عندما تصدى المقدسيون عام 2017 لمحاولات نتنياهو نصب البوابات الالكترونية على مداخل المسجد الأقصى، فأجبروه على إزالتها بمظاهراتهم التي بدأت بالعشرات ووصلت إلى عشرات الآلاف واستمرت لأسابيع حتى تحقق المطلب الفلسطيني، ثم رأينا مظاهرها تتكررهذه الأيام في شوارع و أحياء مدينة القدس.
المعركة تدور من خلال الصمود الرائع لمئات آلاف المقدسيين في مدينتهم وصلابتهم في احتمال كل أشكال الضغط لفرض الأسرلة عليهم، ومن خلال النشاط الشعبي التطوعي من إسعاف الجرحى إلى تنظيم الفعاليات الثقافية والفنية، ومن خلال ترميم بيوتهم، وتحدي الاحتلال بالبناء رغم القيود، وبالنشاط السياسي والكفاحي المقاوم لكل إجراءات الاحتلال.
المعركة على القدس، لا تقتصر على موضوع الانتخابات وإن كانت الانتخابات توفر فرصة كبيرة لتحدي إجراءات الاحتلال وتصعيد المقاومة الشعبية ضد اجراءاته، فالقدس هي عنوان النضال الفلسطيني ومقياس نجاحه، وعنوان المستقبل الفلسطيني برمته ، ولذلك فان إسناد نضال الفلسطينيين وصمودهم ومقاومتهم الشعبية فيها يجب أن يستمر ويتطور قبل وبعد الانتخابات، وأن يكون هدفا لنشاط كل فلسطيني وفلسطينية ولكل من يساند نضالهم العادل.