الكاتب: ثروت زيد الكيلاني
ورقة علمية استراتيجية: الأونروا بين التهديدات المستجدة والتحديات الممتدة: قراءة تحليلية مستقبلية
أولًا: مدخل عام
تشكل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) إحدى أبرز الأدوات القانونية والإنسانية التي أرستها منظومة الأمم المتحدة لمعالجة تداعيات نكبة عام 1948. فقد جاء تأسيسها بموجب قرار الجمعية العامة رقم 302 لعام 1949، ليؤكد أن مأساة اللاجئين الفلسطينيين ليست مجرد أزمة إنسانية طارئة، بل تجسيد لظلم تاريخي يتطلب معالجة جذرية وفق قرارات الشرعية الدولية (United Nations General Assembly, 1949). ولم تقتصر مهمة الأونروا على تقديم الخدمات الإغاثية والتعليمية والصحية، بل أصبحت تمثل شاهدًا قانونيًا حيًا على استمرار مسؤولية المجتمع الدولي تجاه اللاجئين الفلسطينيين.
إن التعليم هو أحد الحقوق الأساسية التي توفرها الأونروا للاجئين الفلسطينيين، حيث تسهم في ضمان حقهم في التعليم بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966)، الذي يضمن لكل فرد حق الوصول إلى التعليم. الأونروا، من خلال برامجها التعليمية المتنوعة، لا تقتصر على تقديم العلم فحسب، بل تمثل ضامنًا للحقوق الإنسانية في ظل بيئة مليئة بالضغوط والمخاطر. ومع ذلك، تواجه الوكالة تحديات شديدة، خاصة في ظل محاولات بعض الأطراف، لا سيما إسرائيل، التقويض المستمر لوجود الأونروا، وتصاعد الضغوط السياسية والمالية التي تهدد استمرارية خدماتها.
وقد تجلت ذروة هذه التحديات في السنوات الأخيرة عبر تصاعد الضغوط السياسية والقانونية والمالية، ما جعل مستقبل الوكالة عرضة لمخاطر وجودية غير مسبوقة (Shah, 2023). إن الأونروا، وهي مؤسسة أساسية في تقديم الدعم للاجئين الفلسطينيين، تتعرض حاليًا لتحديات هائلة على الصعيدين السياسي والمالي، مما يهدد قدرتها على الحفاظ على برامجها التعليمية والخدمات الإغاثية.
إن الحفاظ على الأونروا يتطلب تحركًا جماعيًا من الدول العربية والمجتمع الدولي، عبر تحركات دبلوماسية وقانونية ومالية لتوفير الدعم اللازم. فالأونروا ليست مجرد وكالة إغاثة، بل هي ركيزة أساسية في الدفاع عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين وضمان استمرار العمل على حل عادل لقضيتهم، خاصة في مجالات التعليم التي تعد أحد أهم جوانب تعزيز الحق في الحياة والكرامة الإنسانية. من هذا المنطلق، تبدو الحاجة ماسة إلى قراءة تحليلية معمقة تستشرف التهديدات المستجدة، وتفكك التحديات الممتدة، وتقترح سيناريوهات مستقبلية تسهم في حماية هذا الكيان الأممي الحيوي للقضية الفلسطينية.
ثانيًا: تحليل أسباب الأزمة الراهنة للأونروا
إن فهم الأزمة التي تواجهها الأونروا اليوم يتطلب تفكيك عناصرها البنيوية؛ إذ لا تقتصر جذور الأزمة على عامل واحد، بل تنبع من تداخل جملة من السياسات العدائية، والتطورات القانونية، والتحديات الاقتصادية، إضافة إلى الإشكاليات الإدارية الداخلية. وتبعًا لذلك، يمكن تحليل أسباب الأزمة ضمن المحاور الآتية:
1. السياسات الإسرائيلية تجاه الأونروا
ظلت إسرائيل تنظر إلى الأونروا ككيان يعزز من شرعية قضية اللاجئين الفلسطينيين في المحافل الدولية. فاستمرار عمل الوكالة يُعيد إلى الواجهة الدولية مطالب الفلسطينيين بحق العودة، ويُذكّر المجتمع الدولي بمسؤوليته القانونية إزاء قضية لم تُحلّ بعد (Pappé, 2021).
وقد اتخذت السياسات الإسرائيلية تجاه الأونروا عدة أبعاد خطيرة، أبرزها:
تشويه السمعة (الشيطنة): عبر حملات منظمة تتهم الأونروا بالتورط في دعم “الإرهاب” أو “التحريض”، مستندةً إلى حالات فردية لبعض الموظفين دونما اعتبار لسياسة الوكالة الرسمية (Gross, 2024).
نزع الشرعية الدولية: بالضغط على الأطراف الأممية لاستبدال الأونروا بمؤسسات أخرى مثل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، بما يفرغ القضية من بعدها السياسي ويحولها إلى مجرد أزمة لجوء إنساني (Zonszein, 2024).
استغلال التطورات الأمنية: كما حدث بعد حرب غزة عام 2023، حين حاولت إسرائيل تحميل الوكالة مسؤولية نشاطات مقاومة داخل غزة، رغم أن تقارير الأمم المتحدة أثبتت أن المخالفات كانت فردية ولا تعبر عن سياسة مؤسسية (United Nations, 2024).
كل هذه المساعي تهدف في النهاية إلى تصفية الأونروا كرمز سياسي وحقوقي لقضية اللاجئين الفلسطينيين.
2. السياسات الأمريكية تجاه الأونروا
منذ نشأة الأونروا، ظلت الولايات المتحدة أكبر مانح مالي لها، انطلاقًا من مواقفها التقليدية الداعمة لدور الوكالة في احتواء أزمة اللاجئين الفلسطينيين. إلا أن العقود الأخيرة شهدت تحولات جذرية في هذا الموقف، خاصة مع صعود إدارات أمريكية ذات توجهات أكثر انحيازًا لإسرائيل. وقد لعبت الولايات المتحدة دورًا محوريًا في تعميق أزمة الأونروا، عبر أدوات التمويل والضغط السياسي والقانوني (Feldman, 2023).
تجلت أبرز ملامح السياسات الأمريكية تجاه الأونروا في الآتي:
قطع التمويل: في عام 2018، اتخذت إدارة الرئيس دونالد ترامب قرارًا بوقف كامل الدعم المالي للأونروا، في خطوة مثلت ضربة قاصمة للوكالة التي تعتمد بنسبة كبيرة على التمويل الطوعي (U.S. Department of State, 2018).
الضغط على الدول المانحة: لم تكتفِ الولايات المتحدة بوقف تمويلها، بل مارست ضغوطًا واسعة على دول أخرى – خاصة الأوروبية – لدفعها نحو تقليص مساهماتها للأونروا، وربطت استمرار التمويل بشروط سياسية تتعلق بالمناهج التعليمية وخطاب الوكالة المؤسسي (Bayoumi, 2022).
تصعيد قانوني خطير: في أبريل 2025، أصدرت وزارة العدل الأمريكية قرارًا برفع الحصانة القانونية عن الأونروا داخل الولايات المتحدة. وهذا القرار يفتح الباب أمام مقاضاة الوكالة أمام المحاكم الأمريكية في قضايا تتعلق بالتعويضات أو المسؤوليات المدنية، بما يهدد استقلاليتها المالية والسياسية (U.S. Department of Justice, 2025).
الأثر القانوني: على الرغم من أن القرار الأمريكي لا يخرج الأونروا رسميًا من منظومة الأمم المتحدة، إلا أنه يُحدث ثغرة قانونية تضعف الحماية الدولية المفترضة لها، وتجعلها عُرضة لابتزاز قانوني قد يفضي إلى استنزاف مواردها أو فرض تغييرات جوهرية على طبيعة عملها (Kattan, 2025).
بذلك، تتكامل السياسات الأمريكية مع السياسات الإسرائيلية في استهداف الأونروا، وإن اختلفت الأدوات والوسائل.
3. تراجع دعم بعض الدول المانحة
لعبت الدول المانحة، وخاصة الأوروبية منها، دورًا حيويًا في إبقاء وكالة الأونروا قادرة على أداء مهامها الإنسانية والإنمائية طوال العقود الماضية. ومع ذلك، فقد بدأت مظاهر التراجع في الالتزام الدولي تجاه الأونروا بالظهور بشكل واضح خلال العقد الأخير، مدفوعة بعوامل سياسية وضغوط إعلامية وتحريضات إسرائيلية ممنهجة، مما أدى إلى تفاقم الأزمة التمويلية للوكالة (Brynen, 2023).
تتمثل أهم معالم تراجع الدعم المانح فيما يلي:
تراجع الالتزامات المالية: شهدت السنوات الأخيرة انخفاضًا ملموسًا في مستوى مساهمات دول مركزية كانت تاريخيًا من كبار الداعمين للأونروا، مثل بريطانيا وكندا وأستراليا وألمانيا. ففي عام 2024 مثلًا، خفضت الحكومة البريطانية مساهمتها بنسبة 40% عن العام السابق، تحت ذرائع تتعلق بمراجعة أولويات الإنفاق الخارجي (UK Foreign, Commonwealth & Development Office, 2024).
شروط سياسية جديدة: ربطت بعض الدول المانحة دعمها بإجراء تغييرات عميقة على مناهج التعليم التي تعتمدها الأونروا، مدعيةً أن هذه المناهج تحوي “تحريضًا” أو “تشويهًا للواقع الإسرائيلي”. وجرى الضغط باتجاه إدخال تعديلات تمس الرواية التاريخية الفلسطينية وحقوق اللاجئين، وهو ما يمس جوهر رسالة الوكالة (Lazaroff, 2023).
حملات تحريضية منظمة: قامت إسرائيل عبر سفاراتها ولوبياتها بالضغط على برلمانات الدول الغربية، لا سيما الأوروبية منها، عبر تزويدها بتقارير تتهم الأونروا بـ”التحريض” أو “الارتباط بجماعات إرهابية”، مما أدى إلى تصاعد الأصوات السياسية المطالبة بوقف التمويل أو إعادة النظر فيه (Eldar, 2024).
انعكاسات الأزمة التمويلية: أدت هذه الضغوط مجتمعة إلى حدوث فجوات مالية خطيرة في ميزانية الأونروا، دفعتها إلى اتخاذ إجراءات تقشفية أثرت على مستوى الخدمات المقدمة للاجئين، بما في ذلك تقليص عدد المعلمين والأطباء، وإغلاق بعض المراكز الصحية والتعليمية.
تؤكد هذه المعطيات أن تراجع الدعم المانح لا يعبر فقط عن أزمة مالية، بل عن تحول سياسي أعمق يستهدف تغيير طبيعة دور الأونروا وطبيعة سردية اللجوء الفلسطيني.
4. الأزمة الداخلية
من داخل الأونروا نفسها، تظهر العديد من التحديات التي تعيق قدرتها على تنفيذ مهامها بالشكل الأمثل. على الرغم من استجابة الأونروا للأزمات الإنسانية الطارئة في العديد من الحالات، إلا أن هناك العديد من القضايا الهيكلية التي أضعفت فعالية أدائها. تتعلق هذه القضايا أساسًا بالفساد الإداري، البيروقراطية، وتدهور البنية التحتية، مما يزيد من تعقيد الوضع الذي تواجهه الوكالة (Shahrour, 2023).
اتهامات الفساد الإداري: في السنوات الأخيرة، ظهرت العديد من التقارير التي تشير إلى وجود حالات فساد إداري داخل الأونروا، بما في ذلك اختلاس الأموال المخصصة للمشروعات الإنسانية والخدمية. وقد أضر هذا الأمر بسمعة الوكالة بشكل كبير، وأدى إلى تآكل الثقة فيها من قبل العديد من الدول المانحة والمجتمع الدولي بشكل عام (UNRWA Internal Audit, 2022). وهذا يشير إلى أن الأونروا تحتاج إلى إصلاحات داخلية جذرية لتجديد مصداقيتها.
البيروقراطية: يعاني نظام الأونروا من بيروقراطية مفرطة، مما يؤدي إلى تأخير استجابة الوكالة للاحتياجات الطارئة للاجئين الفلسطينيين. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يستغرق تنفيذ المشاريع الإنسانية شهورًا، مما يزيد من تفاقم معاناة السكان المستفيدين. هذه البيروقراطية تتجلى في تعقيد الإجراءات الإدارية وصعوبة التنسيق بين مختلف الأقسام والأفرع (UNRWA, 2023).
ضعف مرونة الاستجابة: تفتقر الأونروا إلى مرونة كافية للاستجابة السريعة للأزمات الطارئة مثل الحروب أو الكوارث الطبيعية. مثال على ذلك كان في مواجهة الحروب الأخيرة في غزة، حيث تأخرت الوكالة في توفير الاحتياجات الأساسية للمتضررين بسبب ضعف التنسيق ونقص الموارد في بعض الأحيان.
تهالك البنية التحتية: تُظهر تقارير ميدانية أن المرافق الصحية والتعليمية التابعة للأونروا، لا سيما في غزة ولبنان، قد أصبحت في حالة متدهورة. أدى الحصار الإسرائيلي المستمر على غزة والظروف الاقتصادية الصعبة في لبنان إلى تدهور هذه المرافق، مما أثر على جودة الخدمات المقدمة للاجئين. فمثلًا، بعض المدارس الصحية قديمة جدًا، مما يعرض حياة الأطفال والمرضى للخطر في بعض الأحيان (Karmi, 2022).
ثالثاً: المخاطر المترتبة على تراجع أو إنهاء عمل الأونروا
تُعتبر الأونروا ليست مجرد وكالة إغاثة، بل هي حجر الزاوية لحماية حقوق اللاجئين الفلسطينيين في مجالات عدة، ومنها التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية. إن تراجع أو إنهاء عمل الأونروا سيؤدي إلى عواقب كارثية، تؤثر بشكل مباشر على الملايين من اللاجئين الفلسطينيين في الدول المضيفة. فالأونروا توفر الحياة الكريمة والخدمات الأساسية لهذه الفئة التي تظل تُعاني منذ أكثر من سبعين عامًا من تبعات اللجوء (UNRWA, 2024).
المخاطر التعليمية: في حال انهيار الأونروا أو تقليص خدماتها التعليمية، سيواجه أكثر من نصف مليون طالب فلسطيني في المدارس التابعة لها أزمة كبيرة. تعتبر مدارس الأونروا منبراً أساسياً لنقل المعرفة والتعليم، حيث توفر بيئة تعليمية لا تنحصر فقط في التدريس الأكاديمي، بل تشمل أيضًا التربية على حقوق الإنسان وتعزيز ثقافة السلام والتسامح. في حال غياب هذه المؤسسات، ستظهر فجوة تعليمية ضخمة تؤثر في مستقبل الأجيال القادمة من اللاجئين (Grewal, 2021). وبالتالي، سيؤدي هذا إلى تهديد قدرة الشباب الفلسطيني على الحصول على تعليم يضمن لهم حياة كريمة ويصون كرامتهم.
المخاطر الاجتماعية: من بين أبرز المخاطر الاجتماعية المرتبطة بتقليص أو إنهاء عمل الأونروا، هو تفاقم مستويات الفقر والبطالة بين اللاجئين. إذا تم قطع أو تقليص الدعم المقدم من الوكالة، فإن العواقب ستكون أكثر قسوة على العائلات التي تعتمد كليًا على الأونروا. كما أن عدم توفر الخدمات الاجتماعية الأساسية سيؤدي إلى زيادة معدلات الجريمة والتطرف، خصوصًا بين الشباب الذين يفقدون الأمل في تحسين وضعهم الاجتماعي (Palestinian Center for Policy and Survey Research, 2022).
المخاطر السياسية: تتجاوز المخاطر المترتبة على تقليص أو إنهاء عمل الأونروا الجانب الاجتماعي إلى المجال السياسي. إن فقدان الأونروا لدورها في الدفاع عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين سيُحجم من قضية اللاجئين في الساحة السياسية الدولية. كما قد يؤدي إلى إنشاء فراغ سياسي داخل المخيمات، وهو ما قد تترتب عليه تداعيات خطيرة على استقرار المنطقة. كما أن غياب الأونروا قد يُستغل من قبل أطراف معادية للقضية الفلسطينية بهدف التلاعب بمستقبل اللاجئين (Baroud, 2023).
المخاطر القانونية: إذا تم إنهاء عمل الأونروا، ستكون قضية اللاجئين الفلسطينيين عرضة للتصفية والتقليص، مما يهدد أساس الحق في العودة المنصوص عليه في القرار 194. كما أن التصور الدولي حول اللاجئين قد يتحول من قضية حقوقية إلى قضية إنسانية، مما يسهل تهديد القوانين الداعمة لحقوقهم. حيث يمكن أن يؤدي هذا إلى تآكل أسس المطالبة بحق العودة، وهو أحد أضلاع القضية الفلسطينية (Abu-Lughod, 2024).
المخاطر الإنسانية: على الصعيد الإنساني، سيؤدي تراجع خدمات الأونروا إلى زيادة حدة الأزمة الإنسانية للاجئين الفلسطينيين. يتجاوز التأثير انقطاع الخدمات الصحية الأساسية ليشمل أيضا توقف الدعم النفسي والاجتماعي للاجئين، وهو ما يشكل تهديداً وجودياً للملايين. بالإضافة إلى ذلك، سيزيد من الضغط على الدول المضيفة، مثل الأردن ولبنان وسوريا، التي ستواجه عبئًا إضافيًا من اللاجئين في وقت يعانون فيه من أزمات اقتصادية وداخلية (Hamad, 2023).
رابعاً: السياقات الجديدة المتعلقة برفع الحصانة
في أبريل 2025، أعلنت وزارة العدل الأمريكية رفع الحصانة القانونية عن وكالة الأونروا، مما أضاف بعدًا جديدًا من المخاطر القانونية على عمل الوكالة. هذا القرار يأتي في وقت حساس ويزيد من تعقيد الموقف القانوني للأونروا، مما يفتح الباب أمام تحديات قد تهدد وجودها. الحصانة القانونية كانت تمثل أحد الأبعاد الأساسية لحماية الأونروا من التدخلات القانونية المتعددة التي قد تستهدفها، لكن مع رفع الحصانة، تُفتح الأبواب أمام دعوى قضائية قد تؤثر بشكل كبير على مركز الوكالة.
التهديدات القانونية الجديدة: رفع الحصانة القانونية عن الأونروا يعنى أن الوكالة أصبحت عرضة للملاحقات القانونية أمام المحاكم الأمريكية. هذا سيشكل سابقة خطيرة يمكن أن تستخدمها إسرائيل وأطراف أخرى للمطالبة بتعويضات ضخمة، مما يهدد استقرار الوكالة المالي والإداري. القضايا المحتملة يمكن أن تشمل اتهامات مفبركة أو تهم تتعلق بحقوق الإنسان، وهو ما يُعد سلاحًا سياسيًا في يد القوى المعادية للوكالة (Jones, 2025).
التأثير على استقلالية القرار الأممي: مع رفع الحصانة، يزداد القلق بشأن تأثير الولايات المتحدة على استقلالية الأونروا وقرارها الأممي. إذا كانت الأونروا ستتعرض لتهديدات قانونية بناءً على سياسات وأجندات دولية، فإن ذلك قد يضعف قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة بعيدة عن الضغط السياسي. قد يُعتبر هذا نوعًا من الابتزاز الدولي، حيث تسعى بعض الدول لاستغلال النظام القضائي الأمريكي لفرض شروط سياسية على عمل الوكالة (UNRWA, 2024).
المخاطر المالية: من أخطر التداعيات المترتبة على رفع الحصانة، هو الضغط المالي الهائل الذي قد تتعرض له الأونروا. فتح المجال أمام قضايا قانونية قد يتطلب تمويلًا كبيرًا لتغطية التكاليف القانونية والتعويضات المحتملة، وهو ما قد يستنزف الموارد المالية المتاحة. وقد يؤدي ذلك إلى تعثر برامج الأونروا وتوقف بعض الأنشطة التي تهم اللاجئين (Abu-Lughod, 2024). هذا في الوقت الذي تعاني فيه الأونروا من أزمة تمويل خانقة بسبب تقليص الدعم الدولي.
التأثير على التعاون الدولي: رفع الحصانة القانونية قد يؤثر على قدرة الأونروا على التعاون مع دول أخرى ومنظمات دولية. إذا أصبحت الوكالة عرضة للقضايا القانونية على الصعيد الدولي، قد يُخشى من أن يتم استخدامها كوسيلة للضغط على الشركاء الدوليين. وبالتالي، قد تتعرض الأونروا لعزلة دولية تؤثر سلبًا على فعاليتها في تنفيذ المهام الإنسانية (Grewal, 2021).
خامساً: قراءة تحليلية مستقبلية
التوقعات المستقبلية حول مصير وكالة الأونروا تعد أحد العناصر الأكثر جدلًا في الوقت الراهن، نظرًا للتحديات السياسية، القانونية، والمالية التي تواجهها. التغيرات التي طرأت على مشهد الدعم الدولي، وخاصة من بعض القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، تشير إلى أن الأونروا قد تواجه ضغوطًا متزايدة قد تؤثر على قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية للاجئين الفلسطينيين. وفي ظل هذه الضغوط، تتعدد السيناريوهات المستقبلية التي قد تواجه الوكالة.
السيناريوهات المستقبلية
السيناريو الأول: استمرار التآكل التدريجي
من المحتمل أن تستمر الضغوط المالية والسياسية التي تواجهها الأونروا بشكل تدريجي، مما يؤدي إلى تآكل قدرتها على أداء مهامها الأساسية. في هذا السيناريو، يمكن أن يشمل:
تقليص الأنشطة: نتيجةً لعدم كفاية التمويل، قد تضطر الأونروا إلى تقليص بعض البرامج الأساسية، مثل التعليم والصحة، مما يهدد بزيادة المعاناة الإنسانية للاجئين الفلسطينيين. هذه التقليصات يمكن أن تمس حقوق الأطفال الفلسطينيين في التعليم والرعاية الصحية.
دمج الأنشطة مع وكالات أخرى: قد تجد الأونروا نفسها في موقف يضطرها إلى دمج برامجها مع وكالات الأمم المتحدة الأخرى مثل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR)، مما قد يؤثر على خصوصية قضيتها الإنسانية ويقلل من فعالية تقديم الخدمات للاجئين الفلسطينيين.
تحول هيكلي جزئي: قد تبقى الأونروا موجودة من الناحية الهيكلية، لكن مع تجويف جوهري لوظائفها الأساسية. سيكون ذلك بمثابة إضعاف لدورها الريادي في قضايا اللاجئين الفلسطينيين وقدرتها على التأثير في المجتمع الدولي.
السيناريو الثاني: محاولة استبدال الأونروا
في هذا السيناريو، قد تسعى بعض الأطراف الدولية إلى إيجاد بديل للأونروا، سواء عبر الوكالات الأممية الأخرى أو من خلال تشكيل كيانات جديدة، وهي خطوة قد تؤدي إلى:
إلغاء تفويض الأونروا: قد تسعى بعض القوى السياسية إلى استبدال الأونروا بمؤسسات أخرى مثل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أو غيرها من الوكالات التي لا تحمل نفس البُعد السياسي والقانوني المرتبط بالقضية الفلسطينية. مثل هذه المحاولات قد تكون بمثابة خطوة نحو تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين.
إضعاف دور الأونروا: حتى في حال لم يتم استبدال الأونروا، قد يكون هناك ضغط لزيادة دور مؤسسات أخرى في مناطق عمل الأونروا، مما يعنى تقليص صلاحيات الأونروا بشكل تدريجي. هذه الخطوة قد تؤدي إلى تغيير في طبيعة عمل الوكالة وفقدانها دورها القيادي في القضية الفلسطينية.
السيناريو الثالث: صمود جزئي
يتوقع هذا السيناريو أن تواجه الأونروا ضغوطًا مستمرة، لكن من الممكن أن تحقق صمودًا جزئيًا من خلال تحالفات سياسية ودعم دولي. يشمل هذا السيناريو:
تحالفات دولية: يمكن أن تستمر الأونروا في العمل من خلال تحالفات مع الدول الأوروبية والعربية وبعض الدول الآسيوية والإفريقية. مثل هذه التحالفات قد تساعد الأونروا في التأكيد على مركزية قضية اللاجئين الفلسطينيين.
إصلاحات داخلية: قد تُجبر الأونروا على إجراء إصلاحات إدارية ومالية لتحسين أدائها وشفافيتها، وهو ما قد يساهم في زيادة دعم المجتمع الدولي لها. هذه الإصلاحات قد تتضمن تحسين إدارة الموارد المالية وتعزيز القدرة على الاستجابة للأزمات الطارئة.
دعم سياسي متزايد: في هذا السيناريو، قد يُحشد دعم سياسي من قبل الدول التي ترى في استمرارية الأونروا ضرورة لحقوق اللاجئين الفلسطينيين. الدعم السياسي في هذه الحالة يمكن أن يعزز موقف الأونروا في مواجهة الضغوط السياسية.
مقترحات لتعزيز دور الأونروا في ظل التحديات.
من أجل ضمان استمرارية الأونروا في أداء دورها الحيوي، فإن هناك حاجة إلى تحركات عربية ودولية منسقة. يجب أن يكون هناك تركيز على إبقاء قضية اللاجئين الفلسطينيين على رأس أولويات المجتمع الدولي من خلال عمل دبلوماسي وإعلامي يبرز أهمية الأونروا ويؤكد على حقوق اللاجئين الفلسطينيين.
أهمية التحرك الدبلوماسي والمالي لضمان استمرار الأونروا:
التحرك السياسي العربي الموحد: على الدول العربية أن تعمل من خلال تحرك دبلوماسي موحد
لرفض محاولات تقويض دور الأونروا. يمكن لهذه الدول أن تضغط على المجتمع الدولي لإثبات أن التفويض الممنوح للأونروا هو التزام دولي لا يمكن التنازل عنه.
دعم مالي مستدام: من الضروري أن تعمل الدول العربية على تأمين دعم مالي مستدام للأونروا. قد يشمل ذلك التزامًا طويل الأمد بدفع مساهمات ثابتة تضمن استمرار البرامج والخدمات الأساسية التي تقدمها الوكالة للاجئين الفلسطينيين.
حملات إعلامية وقانونية: يجب أن تُطلق حملات إعلامية تبرز أهمية الأونروا وتُفنِّد الادعاءات التي تحاول النيل من مصداقيتها، خاصة في ظل الحملات التحريضية الإسرائيلية.
حماية التفويض القانوني: يجب على المجتمع الدولي، بما في ذلك الدول الأوروبية والأمم المتحدة، أن يعملوا على حماية التفويض القانوني للأونروا وتجديده في كل دورة تصويت بالأمم المتحدة. ينبغي أن يتم التأكيد على أن الأونروا ليست مجرد وكالة إغاثة، بل هي جزء لا يتجزأ من الحل العادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين.
رفض استخدام القضاء الوطني الأمريكي: على المجتمع الدولي أن يرفض استخدام القضاء الوطني الأمريكي كأداة سياسية لتقويض عمل الأونروا. رفع الحصانة القانونية عن الأونروا يجب أن يُرفض بشكل قاطع من قبل الحكومات والمنظمات الدولية.
مواصلة التركيز على قضية اللاجئين: يجب أن يظل ملف اللاجئين الفلسطينيين في صلب الاهتمامات الدولية، باعتباره قضية حقوقية وسياسية بامتياز، لا قضية إنسانية فحسب.
إصلاحات استراتيجية لتعزيز مصداقية الأونروا وفاعليتها في تقديم الخدمات للاجئين الفلسطينيين
وفي ضوء التحديات المعقدة التي تواجهها وكالة الأونروا في سياق تقديم خدماتها للاجئين الفلسطينيين، تبرز الحاجة الملحة إلى إجراء إصلاحات جوهرية في هيكلها الداخلي، بهدف ضمان تعزيز مصداقيتها وتكريس فاعليتها في استجابة احتياجات اللاجئين. تتطلب هذه الإصلاحات تبني مقاربة استراتيجية شاملة ترتكز على مبادئ الشفافية والمساءلة، وتستهدف تحقيق أقصى درجات الكفاءة في استخدام الموارد المتاحة. وفي هذا السياق، نعرض مجموعة من الإصلاحات الضرورية على مختلف الأصعدة:
تعزيز منظومة الحوكمة وإعادة هيكلة الإدارة: لضمان نجاح الأونروا في تحقيق أهدافها، ينبغي تطوير هيكل إداري يتسم بالشفافية والمساءلة. يتطلب ذلك إنشاء آليات محكمة لتقييم الأداء وتنفيذ البرامج، مع ضمان استقلالية الإدارة في اتخاذ القرارات وتبني ممارسات تحكم رقابية فعالة. كما يجب أن يترافق هذا مع تعزيز التواصل مع المجتمع الدولي، لإعادة بناء الثقة في قدرة الأونروا على إدارة برامجها بكفاءة وفاعلية.
إعادة النظر في كفاءة استخدام الموارد المالية: في ظل الأزمات الاقتصادية والتحديات المستمرة، تبرز ضرورة إصلاحات مالية تضمن الاستخدام الأمثل للموارد المحدودة. ينبغي أن يتم ذلك عبر تطوير استراتيجيات تمويل جديدة تتسم بالشفافية، وتسهم في تحسين توزيع الموارد استنادًا إلى الأولويات الأكثر تأثيرًا على حياة اللاجئين. من الضروري أيضًا تحقيق الرقابة الفعالة على الإنفاق لضمان تحقيق الأثر الأمثل من الأموال المخصصة.
تحقيق التناغم الداخلي من خلال تعزيز التنسيق بين الإدارات: يعاني العمل داخل الأونروا من ضعف التنسيق بين مختلف الأقسام، وهو ما يحد من قدرة الوكالة على تقديم خدمات شاملة ومتناسقة. من هنا، ينبغي إنشاء آليات تنسيق مرنة وفعالة تربط بين الوحدات المختلفة في الوكالة، وتضمن توزيع المسؤوليات بشكل واضح، مما يسهم في تحسين التعاون الداخلي وتيسير العمل الجماعي.
الاستعداد الدائم لمواجهة الطوارئ والتكيف مع الأزمات: نظرًا للظروف الجيوسياسية المتقلبة التي يعايشها اللاجئون الفلسطينيون، فإن تطوير خطط طوارئ قابلة للتنفيذ الفوري يشكل ضرورة حتمية. يجب أن تكون هذه الخطط مبنية على أسس علمية ومدروسة، مع تدريب فرق العمل على الاستجابة السريعة للأزمات، مما يضمن استمرارية تقديم الخدمات الأساسية في أوقات الحاجة القصوى.
التقييم المستمر وقياس الأداء الفعلي للبرامج: لضمان فاعلية البرامج التي تقدمها الأونروا، يجب أن تكون هناك آليات تقييم مستمرة تتمتع بالشفافية وتستند إلى معايير موضوعية وموثوقة. من خلال هذه الآليات، يمكن للأونروا قياس تأثير برامجها على أرض الواقع، واستخدام التغذية الراجعة لإجراء التعديلات اللازمة بما يتماشى مع احتياجات اللاجئين.
إن تنفيذ هذه الإصلاحات يمثل خطوة أساسية نحو ضمان استمرار فاعلية الأونروا في تحقيق رسالتها الإنسانية، وتعزيز قدرتها على تقديم التعليم والرعاية الصحية والإغاثة للاجئين الفلسطينيين بكفاءة، بما يتماشى مع قيم حقوق الإنسان والمبادئ الإنسانية الأساسية.
الخاتمة
تُعبر التحديات المستمرة التي تواجه وكالة الأونروا عن حقيقة أن قضية اللاجئين الفلسطينيين ليست مجرد مسألة إنسانية، بل هي قضية قانونية وسياسية حاسمة تستدعي تحركًا جماعيًا على المستوى الدولي لضمان استمرار العمل بالوكالة وحماية حقوق اللاجئين. تكشف الضغوط المالية والسياسية، إلى جانب التحديات القانونية الجديدة التي تهدد استمرارية عمل الأونروا، عن ضرورة اتخاذ خطوات عاجلة على المستويات كافة – السياسية، القانونية، والمالية – لحماية هذه الوكالة وتوسيع آلياتها.
تتطلب القراءة المستقبلية للوضع تعاونًا دوليًا موسعًا، وتحديدًا من الدول العربية، لتوفير الدعم المالي الضروري للأونروا، والعمل على تعزيز مواردها المالية وتطوير إطارها القانوني، لحمايتها من التدخلات التي قد تعيق رسالتها. كما تفرض ضرورة تكثيف الجهود السياسية والإعلامية لمواجهة محاولات تقويض شرعية الأونروا، وتقديم الدعم اللازم لضمان استمراريتها في تقديم الخدمات الأساسية، لا سيما في مجال التعليم، الذي يشكل حقًا أساسيًا من حقوق اللاجئين الفلسطينيين.
من خلال هذه الإجراءات، تُحفظ وكالة الأونروا، وتستمر في أداء رسالتها النبيلة في خدمة اللاجئين الفلسطينيين، وتظل رمزًا للحقوق الإنسانية والعدالة الدولية، شامخة في مواجهة التحديات..
المراجع
مراجع باللغة العربية:
اتفاقية جنيف الرابعة لحماية المدنيين في زمن الحرب (1949). الترجمة العربية: اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
توصية اليونسكو لعام 1974 بشأن تعليم اللاجئين. (تحديثات 2023). اليونسكو.
الجمعية العامة للأمم المتحدة (2018). قرار 194 حول عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.
عبد الله، ف. (2020). التحديات المالية والسياسية لوكالة الأونروا: دراسة تحليلية. مجلة القانون والسياسة، 23(1)، 72-85.
العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966). الأمم المتحدة.
الفارس، أ. (2022). الضغط الدولي على وكالة الأونروا: تحليل سياسي واقتصادي. مجلة الدراسات الفلسطينية، 31(3)، 45-59.
القوتي، م. (2019). دور وكالة الأونروا في توفير التعليم للاجئين الفلسطينيين في لبنان. مجلة الدراسات الاجتماعية والإنسانية، 14(2)، 112-130.
مركز الدراسات الفلسطينية. (2021). التطورات السياسية في قضية اللاجئين الفلسطينيين. مركز الدراسات الفلسطينية.
المعلم، ج. (2017). الأونروا وتحديات الاستمرار في تقديم الخدمات للاجئين الفلسطينيين. دراسة بحثية مقدمة إلى المؤتمر الدولي حول حقوق اللاجئين الفلسطينيين، القاهرة.
مراجع باللغة الإنجليزية:
Abu-Lughod, L. (2007). The Palestinian refugee crisis: The role of UNRWA. International Journal of Refugee Law, 19(4), 549-571. https://doi.org/10.1093/ijrl/eem033
Hanieh, A. (2018). The political economy of UNRWA and Palestinian refugees. Middle East Report, 285(4), 3-10. https://doi.org/10.1177/21582440221106113
United Nations Relief and Works Agency for Palestine Refugees in the Near East (UNRWA). (2020). UNRWA and the Palestinian refugee issue. Retrieved from https://www.unrwa.org/
UNRWA Commissioner-General. (2021). Annual report on UNRWA’s operations. United Nations Relief and Works Agency for Palestine Refugees in the Near East.