الكاتب: د. عبد الرحيم جاموس
تُسلّط التسريبات الأخيرة التي نشرها موقع "والا" العبري الضوء على واحدة من أكثر حلقات التفاوض حساسية وتعقيدًا منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في 7 أكتوبر2023 م.
فقد أفادت التقارير بأن رجل الأعمال الفلسطيني-الأمريكي، بشارة بحبح، أدار مفاوضات غير مباشرة بين إسرائيل وقيادة حماس في الدوحة، بناءً على خطوط توجيهية أمريكية، بهدف الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار والإفراج عن الأسرى.
إلا أن مواقف الأطراف، كما كشفتها هذه التسريبات، تؤكد أن جوهر الأزمة يتجاوز مسألة الأسرى إلى صراع على صياغة النهاية السياسية والعسكرية للحرب.
إسرائيل: هدف الحرب لم يكن "الرهائن" فقط ....!
رغم كل ما تدعيه إسرائيل من حرص على استعادة "الرهائن"، إلا أن موقفها من الصفقة المقترحة يفضح نواياها الحقيقية، فقد رفضت بشكل قاطع أي صيغة تفيد بوقف إطلاق نار دائم فور انتهاء فترة الهدنة المقترحة (60 يومًا)، ورفضت كذلك الاقتراح القاضي بإطلاق سراح الأسرى على مرحلتين، بحجة أن حماس قد تتهرب من تنفيذ الشق الثاني.
في الواقع، هذا الرفض لا يعكس مخاوف تقنية، بل يكشف أن إسرائيل لا تزال تراهن على استمرار الحرب كوسيلة لفرض وقائع سياسية وميدانية جديدة في غزة، تشمل تقويض سلطة حماس، وتهجير السكان، وإعادة هندسة الواقع الفلسطيني بما يتناسب مع مصالحها الأمنية والاستراتيجية.
الولايات المتحدة: إدارة تفاوض دون حسم سياسي..!
الولايات المتحدة، كما يتضح من إعطائها توجيهات لبشارة بحبح، تحاول لعب دور الوسيط "الإنساني"، لكنها تتجنب ممارسة الضغط الحقيقي على إسرائيل. تقدم واشنطن نفسها كضامن للاتفاق، لكنها لم تُظهر حتى الآن أي التزام فعلي بفرض حل متوازن، بل تبدو حريصة على إدارة الأزمة لا إنهائها، في إطار محاولة لاحتواء الغضب الدولي دون المساس بأهداف تل أبيب.
حماس: بين الواقعية السياسية وضغوط الداخل..!
من جانبها، أبدت حماس مرونة نسبية حين وافقت على إطلاق الأسرى على مرحلتين، لكنها أصرت على أن يقود وقف إطلاق النار المؤقت إلى وقف دائم، دون الحاجة لموافقة إسرائيلية لاحقة.
هذا الموقف يعكس إدراكًا من الحركة لطبيعة المناورة الإسرائيلية، وسعيًا للحصول على ضمانات ملموسة تحصّن أي هدنة من أن تُستغل كفرصة إسرائيلية لإعادة التسلّح والهجوم مع ذلك، تثير مواقف حماس تساؤلات محلية ودولية: إلى أي مدى تستطيع الحركة، وسط الخراب غير المسبوق في غزة، التمسك بشروطها دون أن يُفهم ذلك على أنه تعطيل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟
الجواب معقّد، لأن الحركة تخشى من أن أي تنازل غير محسوب قد يُترجم إلى تراجع سياسي مميت، أو يُعيد إنتاج سلطة فلسطينية منزوعة السيادة في القطاع.
جوهر المأزق: من يملك قرار إنهاء الحرب؟
الصفقة التي رُفضت ليست صفقة فاشلة، بل كاشفة. فقد أظهرت أن المشكلة ليست في عدد الأسرى أو ترتيب الإفراج، بل في غياب الإرادة السياسية الإسرائيلية لإنهاء الحرب أصلًا.
إسرائيل ترفض أي مسار سياسي جدي قد يؤدي إلى وقف دائم لإطلاق النار، لأنها تعتبر استمرار العدوان وسيلة ضغط إستراتيجية لتحقيق غايات أبعد من الرهائن.
أما واشنطن، فتمارس دبلوماسية الصوت الخافت، دون استعداد لتحدي حليفها، فيما تقف الأطراف العربية والدولية عاجزة أمام مشهد يزداد كارثية يومًا بعد يوم.
لقد كشفت هذه الجولة من المفاوضات أن معاناة غزة ليست نتيجة تعنّت حماس فقط، ولا نتيجة عجز الوسطاء، بل نتيجة تواطؤ دولي مع أطماع إسرائيل في إبقاء الحرب مفتوحة حتى تستكمل أهدافها. لا مخرج حقيقي من هذا المأزق سوى بكسر احتكار إسرائيل للقرار السياسي والعسكري، وفرض حل سياسي عادل وشامل يعيد للفلسطينيين حقهم في الحياة والحرية والكرامة.
أما دون ذلك، فكل صفقة مؤقتة ستظل رهينة القنابل، وكل هدنة مشروطة ستولد ميتة.