الخميس: 02/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

الإصلاح التربوي بين التقنية والفلسفة

نشر بتاريخ: 11/12/2015 ( آخر تحديث: 11/12/2015 الساعة: 16:00 )

الكاتب: ثروت زيد

كثيرة هي البرامج والمشاريع التي تحمل عنوان إصلاح التعليم وتارة تطوير عملية التعليم والتعلم، وتُستل الأقلام بأنواعها للحديث عن تفاصيل تقنية كتطوير قدرات المعلمين وتغيير المناهج الدراسية وتحسين البيئة التعليمية والأنظمة التربوية بل نتجاوزها إلى المشهد التربوي برمته، وترى العجز والوهن بقصد أو غير قصد في تناول فلسفة التعليم وغاياته وكيفية تعلم الطلبة وأدوارهم ودور المعلم والمنهاج والسياسات التربوية.

إن معالجة الأسئلة الأساسية التي يؤمن بها المجتمع تعد قضية فكرية لا بد من حسمها، واستقرار الفكر التربوي في الوصول إلى فلسفة تربوية تجيب عن كل التساؤلات يعد انطلاقة حقيقة في عملية الإصلاح التربوي وتطوير المسائل التقنية، بل سيبحر الجميع نحو تحقيق الغايات دون جدل يصل إلى العقم عن جدوى برامج التطوير التي في أحيان كثيرة تلبي رغبة المانحين في تحقيق غايات قصيرة المدى تتوّج بيوم احتفال ينتهي فيه المشروع وتوزّع الدروع وما شابه.

إن العمل العقلي النقدي المنظم في المجال التربوي يعد أولوية في تكوين المعتقدات، خاصة أن الحصول على معلومات قطعية تجريبية في هذا المجال يعد غاية في التعقيد، لكننا لا نختلف عن تشخيص الحالة الفلسطينية، وحاجات المجتمع الفلسطيني في التحرر من أطول احتلال عرفته البشرية، وبناء دولة مستقلة مدنية يسودها القانون تعزز العلاقة التعاقدية بين الفرد والدولة على قاعدة التربية على المواطنة، وتعتمد أسس الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، وتعزز العلاقة الارتباطية بين الإنسان الفلسطيني والأرض بما يعزز دينامية الزمان بما فيه من إرث ثقافي وتاريخي.

أصبح العمل على صقل شخصية الفرد وإكسابها المهارات والخبرات العملية والعلمية وتأهيلها صمام الأمان لبناء النسيج الاجتماعي والتكيف مع مستجدات العصر الذي من أهم سماته التسارع التكنولوجي والمعرفي، وهذا ما جعل الهوة تزداد في إعداد الفرد بين المجتمعات الفقيرة والمجتمعات الغنية لأسباب ترتبط بالمستوى الاقتصادي وفاعلية الخطط والبرامج الخاصة بالتنشئة الاجتماعية إضافة إلى التركيبة الاجتماعية والأسرية والنظم السياسية القائمة والانفتاح على الثقافات الأخرى، والمنظومة القيمية للمجتمع والعادات والتقاليد والموروث العقائدي والاجتماعي.

إن إصلاح النظام التربوي في فلسطين يتطلب العمل على تأكيد عوامل قوّة المجتمع وتماسكه وتعزيز روح الانتماء والولاء له وفي ذات الوقت الاهتمام بمشكلات المجتمع وعرضها أمام الأجيال بموضوعية وجرأة لتتاح لهم فرص التفكير والتأمل بكل حرية حتى يسهموا بعميلة البناء على قاعدة العمل الجماعي والمسؤولية واحترام الآخر والعيش المشترك ومحاربة الفساد والمحسوبية وتعميق معاني النزاهة والشفافية واعتماد التوجه نحو مجتمع يحكم بعيدا عن معاني العبودية ومظاهرها وتسيير أموره على أنه مجتمع حر يقاد ولا يساق.

إن كلمة السر لنجاح النظام التربوي الفلسطيني ترتبط بقدرته على معالجة حاجات المجتمع الفلسطيني كشعب يرزح تحت نير الاحتلال ويتطلع إلى الإسهام بالحضارة الكونية من خلال مشاركته بعملية الإنتاج المعرفي والثقافي وفي المجالات كافة وفي الوقت نفسه أن ترتبط مخرجات النظام بسوق العمل والحد من البطالة والتركيز على التعليم المهني والانتقال من حفظ المعلومات المعرفية إلى اكتشاف المعرفة العالمية بل والإسهام في إنتاج المعرفة الكونية، ومن التعليم إلى التعلم الذاتي حيث يكون المتعلم قادرا على ضبط تعلمة من خلال تحديد حاجاته والتخطيط لتلبيتها وتقييم تعلمة.

ترتكز عملية التطوير على مجموعة من القيم وتستمدّ طاقة حركتها من المعلومات الّتي تتمكّن في إطارها من توظيف مواهب العاملين واستثمار قدراتهم الفكريّة في مختلف مستويات التنظيم بصورة إبداعية لتحقيق التحسّن المستمرّ للمؤسّسة، وتوفير المناخات والبيئات الحاضنة للإبداع وتشجيع المواهب وتعزيز قيم العمل والتقويم المستمر لمخرجات التعلم والبرامج التعليمية ومواجهة التحديات لا الهروب منها، وتقبل نتائج التقويم على قاعدة الإصلاح والتطوير حتى لو تعارض ذلك مع رغبات الكثيرين من ذوي المصالح الآنية، فالتراجع خطوة خير من الولوج إلى تراكمية الاخفاق والعلاج وبالتالي ارتفاع النفقات العلاجية كأحد مهددات تحسين النوعية.

فلسفة الاصلاح التربوي تشمل نشاطات المنظومة التربوية جميعها والتي من خلالها يتم تحقيق احتياجات وتوقعات المجتمع الفلسطيني وتحقيق أهداف المنظمة بأكفأ الطرق وأقلّها تكلفة عن طريق الاستخدام الأمثل لطاقات جميع العاملين بدافع مستمر للتطوير، وهذا يتطلب حسن التصرف بالموارد المادية والبشرية وتفعيل دور القيادة الوسطية دون إهمال للفئات الفنية والقيادة العليا للمؤسسة، مع ضرورة تقليل المخاطر المعتمدة على البيانات المتيسرة السطحية والأهداف الآنية قصيرة الأجل تقصّر عمر المؤسسة، كما أن التنقل بين الوظائف وعدم ارتباطها بخطط واضحة يزيد من التناقضات الداخلية وقد تؤدي إلى هدر الوقت وترفع من النفقات القانونية غير المبررة وتسمح لتدخلات عشوائية لا تنسجم مع عملية الإصلاح.

لا بد من العمل على تطوير المناهج المدرسية والجامعية وتحسينها بما يجسر الفجوة بينهما، والتأكيد على توفير بيئات الابداع لدى المتعلمين والعاملين لتمكينهم من مواجهة تحديات العصر، وإشاعة ثقافة المعايير للبرامج والمشاريع بما ينسجم ومتطلبات التغيير والإصلاح، والعمل على التحول من تعليم هادف إلى إتقان المحتوى التعليمي إلى التعلم العميق المرتبط بنتاجات التعليم والجودة والتميز وانعكاس ذلك على برامج تطوير قدرات العاملين في حقل التعليم من خلال إعدادهم لتعليم التفكير وتنمية مهاراتهم للوصول إلى مجتمع المعرفة، والإفادة من الدراسات والبحوث التربوية على المناهج سواء المدرسية منها والجامعية، وتعميق الوعي بالممارسة الديمقراطية من خلال التركيز على ثقافة الحوار وتقبل الآخر ونبذ العنف والتطرف وضمان ذلك بسياسات ونظام واضح يحقق العدالة والمساواة.

التربية هي عصب الامة الرئيس القادرة على النهوض بالمجتمع، وهي ميزان التقدم والرقي والرفاهية، كل صاحب فكر ثاقب وراي سديد يجد فيها غايته، والتغيير التربوي رهين الارادة السياسية وادراكها أن الوقت قد حان لإصلاح تربوي جذري ونوعي، واحداث حراك تربوي فاعل وحوار هادف بما يمثله من محطة فارقة تعدل فيها الاوتار وتنحت فيها المنظومة بشكل شمولي بما يحقق مستقبل افضل لمجتمع لا خيار امامة الا ان يكون أو أن يكون.