الثلاثاء: 07/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

جواز السفر الفلسطيني ومهنة "الكاتب"

نشر بتاريخ: 11/09/2017 ( آخر تحديث: 12/09/2017 الساعة: 09:09 )

الكاتب: د. حسن عبد الله

أعتز بأني مواطن أحمل جواز السفر الفلسطيني، وأعتبر أن هذه الوثيقة، هي الأقرب إلى قلبي، ليس من منطلق اقليمي ضيق أو لدوافع التعصب لا سمح الله، فقد تعلمت مبكراً كيف يتم الجمع بين حلقات مهمة ضمن تراتبية لا تفصلها حواجز وأسوار، بل تتداخل وتتكامل إلى حد كبير، أولاً البعد الوطني ثانياً القومي وثالثاً الإنساني الأممي.

وأنا حقيقةً وبعيداً عن بيع وتصدير المواقف، استغرب عندما أسمع من بعض المثقفين، أن الجواز الفلسطيني لا قيمة له، واستغرب أكثر عندما أجد هذا المثقف أو ذاك يلهث للحصول على جنسيات أوروبية، على اعتبار أن جواز السفر الأوروبي أكثرَ قيمةً واحتراماً!!

وأعتقد ألا قيمة على وجه الأرض تضاهي قيمة المهر الذي دفع في وثيقة السفر الفلسطينية، فهو خلاصة شهداء وأسرى وتضحيات، لا يهمني كيف جاء جواز السفر، وإذا كان هو نتيجة "أوسلو" أو غيرها، فكل الذين انتقدوا هذه الاتفاقية وأنا من ضمنهم، عادوا وتعاطوا مع نتائجها، ومن رفض الانتخابات التشريعية الأولى، شارك في مراحل انتخابية لاحقة ترشيحاً وانتخاباً، وهذه التغيرات من الصعب تناولها ومعالجتها في مقال، لأنها شائكة ومعقدة وفيها مفارقات كثيرة.

والحقيقة كلما نظرت إلى الجواز أو تفحصته، أتعامل معه باحترام زائد، حتى وأنا أقلب أوراقه أحاول أن أفعل ذلك بهدوء ومهابة، وكأنني أتصفح قيمة لا تقبل الخشونة أو الخدش، وأعترف أنني أفعل ذلك ربما بدوافع وطنية أو ربما برومانسية كاتب، فلست في الأصل مغرماً بالسفر والتنقل بين الدول، وعدد المرات التي خرجت فيها من الوطن تكاد تكون محدودة ونادرة.
كنت لأول مرة قد سجلت المهنة في جواز سفري "صحفياً"، واعتقدت أن ذلك يضعني في المكان المهني الصحيح، فأنا أعمل في هذه المهنة منذ ثلاث عقود، عشت منها، وأعلت أسرتي، وعلمت أبنائي، في تخصصات وفق اختياراتهم وبعضها كان مكلفاً، وأزعم أن مروري في هذه المهنة ليس مروراً عابراً، فقد تعلمت وعلمت، ولي تلاميذي الذين أعتز بهم، ولي كتبي في الإعلام التي أصبحت مراجعا في موضوعاتها. بينما هذه المرة وعندما أردت تجديد "الجواز" تساءلت: ما الذي يعبر عن حقيقة وضعي بشكل أدق: الصحفي أم الكاتب؟
وذهبت أبعد من خلال سؤال ثانٍ وجهته لذاتي:- أيهما الأقرب إليَّ عاطفياً وإنسانياً وأخلاقياً الكاتب أم الصحفي؟
ولا أدري، ففي أقل من ثانية، دسست يدي في جيبي وأخرجت بطاقة عضويتي في اتحاد الكتاب، وطلبت تغيير المهنة من صحفي إلى كاتب.

وأنا أقول لكم – لماذا؟
"الصحفي" قضية مهنية ترتبط بالعمل والسنوات وتصف واقعاً مرحلياً وإن طال. أما "الكاتب" فهو توصيف مفتوح يظل فيك ومعك إلى آخر نبض في الحياة.
"الصحفي" له اشتراطات مهنية، فأنت تعمل وتجتهد، وترتبط بسياسات المؤسسة، وعليك الالتزام بها والوفاء لها. أما "الكاتب" فإلى جانب الوفاء والالتزام، فهو أنت في أحوالك جميعها، حينما تمشي في الشارع أو تجلس في البيت أو خلف مكتبك في العمل، "الكاتب" أنت في العشرين أو الثلاثين أو السبعين من عمرك، إذاً هو مسيرتك ومراحلك وشببابك ونضجك وشيخوختك.

"الكاتب" عملك التطوعي، دافعك الذاتي للكتابة، مشروعك الإبداعي، ومكوّنك النفسي والاجتماعي، "الكاتب" كتابك الذي ينتظر القارئ بفارغ الصبر على رف مكتبته الخاصة أو على رفوف المكتبات العامة.
"الكاتب" قلمك الذي يرافقك طيلة اليوم تستله في كل لحظة لتدون فكرة، معلومة، خاطرة، فأنت كاتب طيلة الوقت في الليل والنهار، "وصحفي" مؤقت زمنياً بالمعنى الواسع للزمن وبالمعنى الزمني – الضيق على مستوى يومك.
أن يتسنى لي تسجيل مهنتي في جواز السفر "كاتب"، فذلك أكثر تعبيراً بالنسبة إليَّ من كل دروع التقدير والشهادات التكريمية التي نلتها عبر سنوات العمل والإبداع، وهي والحمد لله كثيرة.

ومع كل احترامي وتقديري للمهن الصغيرة والكبيرة في مجتمعنا الفلسطيني، لأنها في المحصلة النهائية ضرورية ومتنوعة، وبها ومن خلال تسير الحياة في بلادنا بالرغم من الظروف الصعبة والتحديات الجسام، فإنني أرى في مهنة "الكاتب" ما يرتبط بشكل مباشر بكل المهن، لأن الكاتب العضوي، من المفروض أن يكون ضمير شعبه وأميناً على كل شيء، يكتب، ويعبر، وينتصر للحق، ويسلط الضوْء على الظلم، ويبرز الايجابي، واشدد هنا على إبراز الإيجابي، حيث لا يعجبني ذلك النوع من الكتاب الذي يخفي عينيه تحت شريط أسود، لا يرى سوى الأسود، لأنه إلى جانب الأسود، هناك الأبيض، لذلك فإن دور الكاتب إضافة إلى التنبيه للسلبي والحث على اجتثاثه، ينبغي أن يكون عامل استنهاض، يرفع المعنويات، ويقوي العزائم، لا أن يتحول القلم فقط لاثبات أننا نعيش في خراب ودمار وانكسار ولا سبيل اطلاقاً للنهوض.

فأي نوع من الكتاب هذا الكاتب الذي أغرق نفسه في السواد لباساً وسلوكاً وحبراً وكلاماً؟!
نعترف أننا في مرحلة شديدة التعقيد، لكننا نجترح في كل يوم انجازات ومآثر على مستوى فردي وجماعي، وبالتالي فإن البياض في حياتنا يصارع ضده "السواد"، وقانون الحياة والتطور أكد لنا منذ فجر التاريخ، أن بياض الشعوب قادر على اختراق السواد وتبديد حلكته.

إن الاعتراف بالكاتب كمهنة لا يشكلُ وفاءً فقط للكتاب الأحياء، وإنما أيضاً للكتاب الشهداء، لأنه بالتأكيد سيريح أرواح كوكبة شهداء الكلمة، كغسان كنفاني وأبي شرار وناجي العلي ومقبل وفودة وقبلهم زمنياً عبد الرحيم محمود.