الإثنين: 29/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

كلمة السر للخروج من الحلقة المفرغة

نشر بتاريخ: 10/03/2018 ( آخر تحديث: 10/03/2018 الساعة: 20:43 )

الكاتب: عوني المشني

الانتصار يتحقق بفارق استخدام خلاق لعناصر القوة بين طرفين، هذه هي المعادلة التي تحكم الصراعات منذ بدء الخليقة حتى اليوم، ومهما اختلفت العصور وأدوات الصراع يظل هذا القانون هو الذي يحكم نتائج الصراعات، توضيحا لهذا، فان امتلاك عناصر القوة لا يكفي لتحقيق النصر، بل المقدرة على توظيف تلك العناصر هي النقطة الحاسمة في تحقيق النصر، فامريكيا تمتلك قوة اكبر بما لا يقارن مع فيتنام ولكن الشعب الفيتنامي استطاع الانتصار نظرا للقيود الموضوعية التي تحكم استخدام عناصر القوة.
وفِي أفغانستان انتصر الشعب الافغاني على الروس ايضا رغم الفارق الكبير في امتلاك عناصر القوة، والأمثلة على ذلك كثيرة، في الصراع الدائر بين الفلسطينيين والاسرائيليين الوضع مختلف الى حد ما ولكن يبقى القانون ذاته يحكم هذا الصراع، الوضع مختلف كوّن الصراع ليس على مناطق نفوذ، بل على الوجود ذاته لكلا الشعبين، حيث يبدو ان انتصار شعب ينفي وجود الشعب الاخر تماما، كوّن الصراع على ذات الارض التي تمثل كينونة الشعبين على حد سواء. إدراكا من الفلسطينيين لهذه الحقيقة، وحتى يكبلوا استخدام اسرائيل لكامل قدرتها العسكرية حاولوا التغيير في جوهر الصراع، فاخرجوا وجود اسرائيل ذاتها من عملية الصراع بقبولهم فكرة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام ١٩٦٧. 
بهذه الحالة عمل الفلسطينيون على تحويل الصراع الى صراع على النفوذ، العالم بأجمعه تفهم الخطوة الفلسطينية وتعاطى معها بايجابية، في اسرائيل احتدم الصراع الداخلي حولها، معسكر الوسط الصهيوني تقبل الامر الى حد ما، وهذا ما جعل اتفاق اوسلو يرى النور بينما اليمين الإسرائيل رفض الامر جملة وتفصيلا ورأى ان النفوذ في المناطق التي احتلت عام ١٩٦٧ جزءا من الوجود الاسرائيلي وبالتالي لا مكان للمساومة فيه، هذا اعاد الصراع مجددا للمربع الاول صراع وجود، اعتمد الاسرائيليون في موقفهم هذا على ثلاثة عناصر، التفوق الاسرائيلي الهائل في ميزان القوى، انهيار الوضع العربي، انتقال الموقف الامريكي من دعم اسرائيل الى دعم الاحتلال الاسرائيلي، هنا وامام هذا الوضع اصبح الوضع الفلسطيني امام تحدٍ من نوع جديد، ما هي الأدوات النضالية التي تتناسب مع عودة الصراع الى المربع الاول، صراع وجود؟؟؟؟ صحيح ان المقاومة المسلحة في ظل الظروف الحالية باتت محاصرة الى حد عدم قدرتها على احداث تغييرات استراتيجية، لكن في المقابل فان الحراك الدولي رغم النجاحات البادية للعيان الا انه أعجز من اجبار اسرائيل على تغييرات استراتيجية، خاصة وان الغطاء الامريكي للاحتلال يضعف تأثير المجتمع الدولي، هذا يضع الفلسطينيين امام حالة من فقدان الأدوات، مثل هذا الوضع مر به الفلسطينيون في اكثر من مرحلة، بعد حرب ١٩٨٢ وخروج منظمة التحرير من لبنان وصل الامر ان الشهيد الرمز ياسر عرفات لم يجد من يستقبله لدى قدومه لحضور القمة العربية في عمان، وافتقد الفلسطينيون دورهم كصناعي للحدث بل أصبحوا يلهثون خلفه، اعتقد الكثيرون ان منظمة التحرير ستتحول الى "عشة فارغة" في تونس كما تحول مكتب حكومة عموم فلسطين في وقت ما بداية الخمسينات من هذا القرن، لكن الشعب الفلسطيني اجترح معجزة كفاحية بانتفاضة الحجارة عام ١٩٨٧، انتفاضة قلبت المشهد السياسي رأسا على عقب لتعود منظمة التحرير ذلك "الرقم الصعب الذي لا يمكن تجاوزه"، في القدس توهم الاسرائيليون ان فرصتهم للاستيلاء على الاقصى قد سنحت، وضعوا البوابات كعملية جس نبض ، وبدون مقدمات انفجر شعبنا في القدس غضبا جماعيا منضبطا وفاعلا اجبر اسرائيل على التراجع ،ما قبلها وما بعدها ابدع الشعب الفلسطيني في استنهاض جبهة عالمية مناصرة لشعبنا تحت عنوان " حركة المقاطعة " " B.D.S” ، تلك الحركة التي رغم حداثتها فقد استطاعت تحقيق نتائج لها مدلولات استراتيجية ، كشفت اللثام عن وجه اسرائيل العنصري وبدأت رحلة طويلة في مقاطعة الاحتلال والاستيطان ، ان المقاطعة ليست سلاح الضعفاء كما يتوهم البعض ، انه القوة الناعمة التي تحطم الأغلال وتطيح بانظمة العنصرية البغيضة . ببساطة هذا يعني ان شعبنا دوما يستطيع اختراق الأسوار المغلقة التي يتهيأ للبعض انها لن تفتح ، والاهم ان ذلك غير مرتبط بسياسات عليا ، ففي كل مرة شعبنا بحسه الأصيل يجترح الحلول لتلحق به الفصائل فيما بعد وهذا تعبير عن مستوى الوعي الشعبي الذي يتجاوز الاطر والتنظيمات .
نحن الان نعايش مرحلة لا تختلف في الجوهر ، يبدو للبعض ان الطرق قد اغلقت وان شعبنا افتقد المقدرة على مواجهة متطلبات المرحلة ، مستوى التحديات عالية ومعقدة ، وحجم المخاطر كبيرة ، ويكاد المثقفين والقوى المنظمة يعجزون عن ايجاد مخارج من الازمة ، والأسئلة تكبر وتكبر الى حد التيه ، ولكن استشراف المستقبل لا يتم عبر جلسات المثقفين المثقلين بالنظريات والمصطلحات ، على اقل تقدير هكذا عودنا شعبنا ، شعبنا يجترح المخارج من الأزمات عبر المبادرات الخلاقة الملتصقة بالواقع ويترك للمثقفين والنخب السياسية فرص دراستها ووضعها في السياقات المنهجية والدراسية والبرامجية ، وعبر التاريخ الفلسطيني لا يوجد مرة تجربة واحدة استطاعت النخب السياسية والثقافية ان تبدع في ايجاد مخارج للازمات ، كانت القطاعات العريضة ، بحسها البديهي الأصيل تبادر وفِي الميادين لفرض منطق ما في المواجهة سرعان ما تتلقفه هذه النخب وتصبح " الأب الغير شرعي له " .
عودة على بدء ، ما هي مواصفات الازمة التي نمر بها ؟؟!!! تتصف هذه الازمة بأربع مواصفات جديدة ومختلفة عن الأزمات السابقة : عودة الصراع الى مفهوم صراع الوجود عبر سياسة اليمين الاسرائيلي باعتبار استمرار الاحتلال جزء من " وجودهم " ، عدم فعالية الأدوات القديمة التي استخدمت فلسطينيا ، تطور موضوعي هائل في الكينونة السياسية الفلسطينية عبر الاعتراف الدولي الواسع مع تراجع ملحوظ لتلك الكينونة على الارض عبر الاستيطان والتهويد ، تراجع ملحوظ في قدرة الفصائل والحركات السياسية الفلسطينية في قيادة الشارع . اشتقاقا او ترافقا مع تلك المواصفات هناك الكثير الكثير يمكن إضافته ولكنه لا يضيف او يغير من مواصفات الازمة لهذا يمكن الاستمرار دون الخوض فيه ، في ظل مثل هذه ازمة فان طريق الخروج منها يفترض ان يكون لها مواصفات تتناسب مع مواصفات الازمة ذاتها ، الخطاب والبرامج والأدوات السابقة ليست بقادرة على معالجة الوضع الجديد ، هذه بديهية في السياسة وفِي الحياة ذاتها ، وعدم القدرة على التكيف مع المرحلة الجديدة هي الوصفة الحتمية للفشل ، فما هي مواصفات الحلول لتلك الازمة :
اولا : اعادة الصراع لصراع وجود من قبل حكومة اليمين الحاكم في اسرائيل يفترض به جعل هذه العودة خاسرة له بالمفهوم الاستراتيجي ، هذا لا يتم الا باستخدام عنصر الديمغرافيا التي ستحول من جعل الارض المحتلة عام ٦٧ الى منطقة وجود إسرائيلية الى تهديد استراتيجي ، استخدام الديمغرافيا يتم عبر تعزيز الصمود الوطني على الارض اولا بما يعني سياسات تنمية وصمود ، يعني رفض ومقاومة اي حلول تمكن الاسرائيليين من الفصل بين احتلال الارض وفك الارتباط مع سكانها ، ويجب ان يقترن استمرار الاحتلال الاسرائيلي بتبعية السكان للجهات المحتلة ، وهنا فان يتجلى أهمية مقاومة كل ما من شأنه فصل الارض عن السكان سواء كان هذا الفصل موضوعيا او عبر مشاريع سياسية ، وفِي هذا السياق هناك الكثير مما يفترض ان يقال ولكن هذا يترك لصانعي السياسات الفلسطينية .
موضوع اخر ، وهو تعزيز المقاطعة وتطويرها نوعيا عبر الارتقاء بها لمقاطعة اسرائيل كنظام فصل عنصري ، ربما حرق المراحل ليس هو الطريق لذلك ولكن تطوير المقاطعة بهذا الاتجاه يبقى هدف مشروع .
ان عدم استعجال الحل السياسي باي ثمن والثبات الاستراتيجي مع مرونة في التفاصيل الثانوية يعزز وبقوة من تأثير الديمغرافيا ، الهدوء وعدم الذعر من فزاعة الاستيطان ، والاستمرار في برامجنا المجتمعية والسياسية والاقتصادية ، كل هذا من شأنه ان يعزز موقعنا وموقفنا ، القضية الفلسطينية نشأت قبل هذا الجيل من النخب السياسية وستستمر بعده فلا احد يتوهم ان القضية مقتصرة عليه بتنتهي بنهايته !!!! .
مواصفة اخرى لأدوات الخروج من الازمة وهي تعزيز الهوية السياسية للشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده ، هذا يعني اعادة تشكيل منظمة التحرير كإطار جامع جغرافيا ووطنيا ، وازالة تدريجية للفوارق السياسية بين تجمعات الشعب الفلسطيني عبر برنامج مختلف عما ساد بعد اتفاقيات اوسلو وحتى الان .
اما المواصفة الاخيرة عدم حرق المراحل وترك الديمغرافيا والمقاطعة تفعلان فعلهما عبر الوقت بهدوء ولكن بعمق ، ان الانجرار لمربعات العنف او الحل السريع وجهان لعملة واحدة وهي حرق المراحل وتعطيل لدور المقاطعة والديمغرافية ، لهذا فان الهدوء المترافق مع الثبات السياسي هو الوصفة السحرية للتعاطي مع معطيات المرحلة ، بهذا يستطاع توظيف عنصر الوقت لصالحنا ، واذا كان ذلك لا يعطي اثرا على المدى القصير فانه يعطي نتائج استراتيجية على المدى المتوسط .
لا يتوهم احد ان هذا برنامج ، هذا مجرد توصيف للمرحلة ومتطلباتها والذي بدون ادراكه سنرى أنفسنا في تيه من الأفكار والمفاهيم التي لا رابط بينها ولا تعبر عن رؤيا شمولية ، البرامج هي مهمة صناع القرار ، وفِي ظل ادراك متطلبات المرحلة لن تكون مستحيلة .