الكاتب:
هديل ياسين
في قطاع غزة، لم تعد المجاعة مشهداً بعيداً أو احتمالاً نظرياً، بل أصبحت واقعاً حيّاً ينهش أجساد المدنيين بصمت، دون ضجيج الانفجارات أو صخب الطائرات، لم تأتِ المجاعة بفعل الجفاف أو الكوارث الطبيعية، بل زُرعت عمداً كأداة حرب، وامتدّت كوسيلة عقاب جماعي تحاصر الإنسان في أكثر حاجاته بساطة: رغبته في البقاء. الحصار الذي يطوّق غزة منذ سنوات لم يعد مجرد إجراء أمني، بل تحول إلى منظومة مُحكمة لخنق الحياة، تبدأ بإغلاق المعابر، وتستكمل بتدمير البنى التحتية، وتنتهي بمنع الغذاء والدواء والماء من الوصول إلى من هم في أمسّ الحاجة إليه. إن ما يعيشه سكان غزة اليوم لا يُمكن تسميته بأزمة إنسانية فقط، لأن الكارثة هنا ليست نتيجة ظروف خارجة عن الإرادة، بل نتيجة قرارات سياسية وعسكرية ممنهجة، تضرب عرض الحائط بكل القوانين الدولية التي تحرّم استخدام التجويع كسلاح ضد المدنيين. وهنا تأكيد على أنّ ما يحدث في غزة هو انتهاك صريح ومتمادٍ للقانون الدولي الإنساني، وخرق للمواثيق الحقوقية التي من المفترض أن تصون كرامة الإنسان وحقه في الحياة، لا سيما في أوقات النزاع. والمأساة الأعمق تكمن في هذا الصمت الدولي المتواطئ، الذي يحوّل الجريمة إلى واقع مقبول، والضحايا إلى أرقام تتراكم دون مساءلة أو عدالة.
تحظر اتفاقيات جنيف لعام 1949، وتحديداً البروتوكول الإضافي الأول، استخدام التجويع كسلاح ضد السكان المدنيين، وتنص المادة 54 بوضوح على أن "تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب محظور". كما يُعدّ تدمير أو تعطيل أو منع وصول المواد الأساسية للحياة من غذاء وماء ودواء في سياق النزاعات المسلحة جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وتحديداً في مادتيه السابعة والثامنة، وما يحدث اليوم في قطاع غزة يرقى إلى هذا المستوى من الانتهاك، بل يتجاوزه. فقد اتبعت القوات القائمة بالحصار سياسة واضحة هدفها تعمّد إحداث ضرر جماعي للسكان، وفرض التجويع ليس كنتيجة ثانوية للحرب، بل كسلاح مباشر لإخضاع مجتمع بأكمله، وثبت ذلك من خلال الشهادات الميدانية وتقارير المنظمات الأممية والتي تؤكد أن التجويع لم يكن عارضاً، بل كان سياسة ممنهجة، شملت استهداف المخابز، قصف مزارع الإنتاج الحيواني، تعطيل نقاط توزيع المواد الغذائية، ومنع مرور القوافل الإغاثية، بما في ذلك عبر المعابر التي تسيطر عليها سلطات الاحتلال.
منذ عام 2007 وحتى اندلاع الأحداث بشكل مأساوي في أواخر عام 2023، شكّل الحصار المفروض على قطاع غزة الإطار الهيكلي الأساسي لإضعاف الأمن الغذائي والصحي للسكان المدنيين، حيث لم يقتصر الأمر على تقليص الموارد أو تشديد الإجراءات الأمنية، بل تطور إلى سياسة عقاب جماعي ممنهجة، شملت الإغلاق المتكرر للمعابر، ومنع إدخال المواد الغذائية والطبية الأساسية، والإبقاء على تدفق محدود ومنضبط للبضائع بكميات ضئيلة لا تفي بالحاجة، يتم التحكم بها بشكل كامل من قبل الاحتلال. وقد رافق ذلك في خضم الحرب سيطرة جماعات محلية مرتبطة بمصالح مباشرة مع الاحتلال على جزء من المساعدات التي سُمح بمرورها، لتُعاد توزيعها لاحقاً في الأسواق الغزّية بأسعار باهظة تعجز غالبية السكان عن دفعها، مما عمّق من فجوة الفقر والجوع. هذا الواقع حوّل الحق في الغذاء من مبدأ إنساني إلى امتياز مادي لا يُتاح إلا للقادرين على الشراء، وأصبح المشهد الغذائي في غزة مرهوناً بسلطة السوق وسماسرة المعاناة. وفي ظل هذا السياق، تزامن تصعيد العدوان العسكري مع استهداف مباشر للمزارع ومرافق التخزين والإنتاج، مما عطّل أي قدرة ذاتية على توليد الغذاء محلياً. ومع انهيار شبكات التوريد الداخلية، تحولت الحاجة إلى الخبز أو الماء إلى مسألة نجاة يومية، فيما بات سكان المناطق الشمالية تحديداً في مواجهة الموت جوعاً، بعد أن قُطعت عنهم الإمدادات لأيام متواصلة. وقد لجأ كثيرون إلى أكل الأعشاب أو بقايا الطعام غير الصالح للاستهلاك، في مشهد يرقى إلى كارثة إنسانية شاملة. هذه السياسات، بمجموعها، لا يمكن توصيفها إلا كوسيلة ممنهجة للتجويع الجماعي، تُستخدم كسلاح عقابي ضد مجتمع بأكمله، وتنتهك بشكل فاضح أحكام القانون الدولي الإنساني، الذي يحظر بشكل قاطع استخدام الجوع كأداة حرب ضد المدنيين.
ولا تقف الخسائر في قطاع غزة عند حدود الضربات العسكرية والغارات الجوية، بل تمتد إلى شكل آخر من أشكال الموت الصامت: الموت جوعاً. فهناك مئات، بل آلاف الضحايا الذين لم تسجل أسماؤهم ضمن قوائم القتلى بفعل القصف، بل ماتوا بفعل الجوع أو سوء التغذية أو نقص المياه النظيفة، أو أثناء محاولاتهم اليائسة للحصول على سلة غذائية أو عبوة حليب لأطفالهم. لقد أصبحت طوابير المساعدات مشهداً يومياً يعكس الكارثة، حيث يتجمع الجوعى تحت القصف، وفي مرمى القناصة، على أمل الحصول على طعام يسدّ الرمق، وكثيرون قضوا نحبهم أثناء انتظارهم أو تدافعهم على هذه المساعدات، التي من المفترض أن تكون حقاً أساسياً مكفولاً لكل إنسان، لا أن تصبح تذكرة يانصيب للموت أو النجاة. إن الكرامة الإنسانية في غزة لم تُسحق فقط تحت أنقاض البيوت، بل تم دوسها حين حُرم الإنسان من حقه في الأكل والشرب دون إذلال، وحين فُرضت عليه خيارات مستحيلة بين المجازفة بالحياة أو الموت ببطء. في واقع كهذا، لا يمكن للمجتمع الدولي أن يواصل النظر إلى المأساة كأزمة إغاثية عابرة، بل كجريمة تجويع جماعي تُمارس بدم بارد، وتتطلب محاسبة قانونية وموقفاً إنسانياً حازماً يضع حداً لهذا الشكل المتطرف من العقاب الجماعي.
لا تقتصر المجاعة في غزة على كونها كارثة غذائية، بل تمثل انتهاكاً مركّباً لمنظومة حقوق الإنسان، حيث تتقاطع مع الحقوق الأساسية غير القابلة للانتقاص، ومنها الحق في الحياة، والحق في الغذاء الكافي، والحق في الصحة والكرامة. تنص المادة 11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على التزام الدول بضمان "الحق في الغذاء الكافي"، وتلزم المادة 6 منها باحترام وحماية الحق في الحياة، في حين تؤكد اتفاقية حقوق الطفل على أن لكل طفل الحق في البقاء والنماء والحماية من الجوع. إسرائيل، كقوة احتلال، ملزمة قانوناً بهذه المواثيق، بما أنها طرف فيها، وهي تحتفظ بسيطرة فعلية على كافة المعابر والمنافذ والموارد، وتتحكم بشكل مباشر أو غير مباشر في تدفق الغذاء والمساعدات. بالتالي، فإن إنكارها المسؤولية يمثل خرقاً لمبدأ "المسؤولية عن الفعل الضار"، ويعدّ تقاعساً عن الوفاء بالتزاماتها القانونية تجاه السكان المدنيين في الأراضي المحتلة.
لا يمكن فصل ما يجري في غزة عن السياق الأوسع لصمت المجتمع الدولي وتواطئه، إذ لم تواكب فظائع المجاعة أي إجراءات قانونية رادعة أو تحرك سياسي فعّال. ورغم وجود تقارير صادرة عن الأمم المتحدة تؤكد أن غزة تعاني من ظروف "كارثية"، فإن رد الفعل الدولي ظلّ محصوراً في بيانات القلق والدعوات العامة لضبط النفس. إن القانون الدولي لا يحمّل المسؤولية فقط على الدولة المنتهكة، بل يشمل كل من ساعد أو سمح أو غض الطرف، أو فشل في اتخاذ التدابير اللازمة لمنع ارتكاب الجريمة. هذا يشمل الدول التي تزوّد الاحتلال بالسلاح، وتلك التي تعرقل إصدار قرارات ملزمة في مجلس الأمن، وكذلك المؤسسات التي تتلكأ في فتح تحقيقات جدية أو محاسبة الجنرالات والسياسيين الذين خططوا ونفذوا سياسات التجويع. في هذا السياق، يصبح التواطؤ الدولي جزءاً من الجريمة، ويجب أن يخضع للمساءلة بموجب مبدأ "عدم الإعفاء من المسؤولية" في حالة الاشتراك أو التراخي أو الإهمال الجسيم.
إن إنهاء المجاعة في غزة لم يعد مسألة أخلاقية أو إنسانية فحسب، بل هو واجب قانوني عاجل تفرضه قواعد القانون الدولي الإنساني ومبادئ العدالة العالمية. يتوجب على المجتمع الدولي، بما فيه الأمم المتحدة، والمحكمة الجنائية الدولية، والمنظمات الإقليمية، أن تتحرك بشكل فعّال لوقف هذه الجريمة، وضمان إدخال المساعدات بشكل آمن ودائم، والعمل على رفع الحصار فورًا، وإنشاء آلية قانونية مستقلة للتحقيق في جريمة التجويع الجماعي، وملاحقة المسؤولين عنها على كافة المستويات. كما أن مؤسسات المجتمع المدني، والنقابات، والجامعات، والرأي العام العالمي، مدعوون لتحويل هذه الجريمة إلى قضية رأي عالمي، تُفضح فيها الأسماء والأنظمة، ويُمنع معها الإفلات من العقاب. فالمحاسبة ليست فعل انتقام، بل شرط لبقاء المعايير الإنسانية قائمة في وجه نظام دولي يُسمح فيه باستخدام الجوع كسلاح.
إن ما يجري في قطاع غزة من تجويع وقهر ممنهج يتجاوز كونه كارثة إنسانية، ليُصبح شهادة دامغة على فشل المجتمع الدولي في حماية القانون والعدالة. المجاعة في غزة ليست حدثاً عرضياً، بل جريمة مكتملة الأركان، تتطلب مواجهة قانونية حاسمة، لا مجرد بيانات شجب. إن إنقاذ الأرواح وإنهاء المعاناة مسؤولية قانونية وأخلاقية لا تقبل التأجيل أو التبرير.