الكاتب:
اسماعيل جمعه الريماوي
بينما تشتد قبضة الاحتلال وتتصاعد نبرة اليمين الإسرائيلي الحاكم، تكشف حكومة نتنياهو عن وجهها الحقيقي دون مواربة، وتسعى بخطوات متسارعة الى خطة الحسم في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بضم الضفة الغربية وترسيخ المستوطنات كجزء "لا يتجزأ من السيادة الإسرائيلية"، وفي تحدٍّ سافر للقانون الدولي ومجمل القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، لم تعد مسألة الضم مجرد ورقة ضغط أو ورقة مساومة سياسية، بل باتت هدفًا استراتيجيًا، تتنافس عليه مكونات الائتلاف الحاكم، وتدفع به قُدمًا الأحزاب المتطرفة التي تعتبر أي تريّث أو انتظار شكلًا من أشكال التنازل والانصياع للضغوط الخارجية، وبهذا تتحول الضفة الغربية إلى ساحة سباق بين المستوطنين الذين يمارسون على الأرض سياسة فرض الأمر الواقع، وبين حكومة تتماهى مع هذا المشروع العنصري وتعمل على شرعنته بأدوات تشريعية وعسكرية.
هذا القرار المتوقع في ظل هذه الحكومة اليمينية ليس سوى نكسة جديدة من مسلسل السطو على حقوق الوطنية الفلسطينية، و انتهاكًا صارخًا لاتفاقيات أوسلو، التي رغم هشاشتها، كانت في يوم من الأيام مرجعية تفاوضية تعترف نظريًا بالضفة الغربية كأرض محتلة، وتهيئ الطريق نحو إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة، لكن الحكومة الإسرائيلية ترفض هذه المرجعيات وتدفن معها ما تبقى من أوهام الحل السياسي، ومع إعلان نيتها ضم المستوطنات، فإنها تقضي تمامًا على فكرة حل الدولتين، وتدفع الأوضاع نحو مزيد من التصعيد الميداني، حيث يحذّر مسؤولون فلسطينيون من أن هذه السياسات التي ستشعل المواجهة وتضع الفلسطينيين أمام خيار المقاومة المفتوحة، بعدما سُدّت في وجوههم كل أبواب السياسة والرهانات الدولية .
الدول الغربية، التي اعتادت التغني بالشرعية الدولية، وقفت بين الصمت المتواطئ والمواقف الخجولة، فاكتفى بعض قادتها بالتعبير عن "القلق"، فيما ذهبت أطراف أخرى، مثل الاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية، إلى تسجيل تحفظات دبلوماسية لا تملك أي قدرة على إيقاف المشروع الإسرائيلي، في وقت باتت فيه إسرائيل تعتبر نفسها فوق المحاسبة الدولية، مدعومة بغطاء أمريكي مطلق، وانقسام عربي مريع، وصمت إقليمي يُغريها بمزيد من التغول.
اما الانعكاسات على الأرض فلن تكون مجرد مسألة ترسيم حدود أو إعادة توزيع إداري للمناطق، بل ستؤدي إلى شرعنة الاستيطان بالكامل، ومصادرة مساحات إضافية من أراضي الفلسطينيين، خصوصًا تلك المحيطة بالكتل الاستيطانية الكبرى، كما ستفرض واقعًا خانقًا على القرى الفلسطينية المحاذية، وتزيد من القيود المفروضة على حركة الناس والبضائع، في سياق سياسة إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى عزل الفلسطينيين داخل "جزر و كانتونات سكانية" مفصولة بجدران وحواجز، ومحرومة من أدنى مقومات السيادة.
أما على المستوى السياسي، فإن هذه الخطوة تقضي فعليًا على أي إمكانية للتفاوض الجاد، وتُفرغ المسارات السياسية من مضمونها، لتجعل من الدولة الفلسطينية المستقلة حلمًا مستحيل التحقق، وتحصر الخيارات الفلسطينية بين الاستسلام للواقع الجديد أو مقاومته بكل الأشكال المتاحة، وهو ما ينذر بتصعيد خطير قد لا تقتصر ارتداداته على فلسطين وحدها، بل قد تمتد إلى المنطقة برمتها .
القرار الإسرائيلي بضم المستوطنات لم يكن معزولًا عن سياق الحرب المستعرة على غزة، بل جاء كامتداد طبيعي لعقيدة صهيونية موحدة ترى في الضفة الغربية وقطاع غزة ساحة واحدة ينبغي إخضاعها بالكامل لمعادلات السيطره الأمنية والعسكرية، وفي حين كانت الحرب على غزة تتخذ طابعًا إباديًا مفضوحًا، كان الضم يُمرر في الضفة تحت غطاء الانشغال الدولي بالمجازر الجارية في القطاع، وكأنها سياسة مزدوجة تكمّل إحداها الأخرى: تجويع وتهجير وإبادة في غزة، وضم وتهويد وتوسع استيطاني في الضفة.
هذا الترابط بين الجبهتين كشف بوضوح أن المشروع الصهيوني لا يرى في الضفة وغزة كيانين منفصلين، بل كجزأين من خريطة صهيونية يُراد رسمها بالنار، وهو ما أضعف عمليًا أي حجة لاستمرار مسار التسوية، خاصة أن إسرائيل لم تعد تكتفي بتعطيله أو التحايل عليه، بل تمضي الآن في دفنه علنًا وتجاوز حتى خطوطه الشكلية .
أما السلطة الفلسطينية، فرغم كل ذلك، ما زالت تراهن على وهم المسار السياسي، وتتمسك بشعارات الدولة والمفاوضات رغم أن كل المعطيات على الأرض تقول إن الدولة ماتت، والمفاوضات دُفنت، والمجتمع الدولي الذي يُفترض أنه الضامن لهذه العملية لم يعد يملك الإرادة ولا الأدوات لإجبار إسرائيل على الالتزام بأي اتفاق، بل إن استمرار الرهان على هذا المسار بات عبثيا و عبئًا سياسيًا وأخلاقيًا على الشعب الفلسطيني، الذي يواجه حرب إبادة في غزة، وهجومًا استيطانيًا في الضفة، وغيابًا تامًا لأي مظلة حماية دولية .
في الواقع، فإن الربط بين سياسة الضم وحرب غزة يفضح إفلاس مشروع التسوية من جذوره، ويفرض على قيادة السلطة إن كانت جادة ، إعادة النظر جذريًا في خياراتها، والخروج من مأزق الانتظار العقيم، نحو تبني استراتيجية وطنية جامعة تعيد تعريف الصراع من كونه نزاعًا حدوديًا، إلى كونه صراعًا وجوديًا مع مشروع استعماري إحلالي لا يعترف بالشعب الفلسطيني ولا بحقوقه الوطنية.