الإثنين: 20/05/2024 بتوقيت القدس الشريف

الأباريق المهشمة

نشر بتاريخ: 12/12/2015 ( آخر تحديث: 03/04/2020 الساعة: 05:09 )

الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام

في العام 1997 شجّعني الصديق الشاعر يوسف المحمود ان نمضي في زيارة عمل الى العاصمة الاردنية عمّان ، وهناك التقينا بعدد من الشعراء العرب ، فالتقينا هناك بالشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي ، والشاعر العراقي المتّقد نصيّف الناصري ، والشعراء علي العامري ويوسف عبد العزيز ويوسف ابو لوز ، كما لا انسى لقاءنا بالشاب الذكي جهاد هديب ( توفي حديثا ) .
وقد ترك كل شاعر منهم فينا قصة ، تركت أثرها علي انا شخصيا حتى يومنا هذا ، أثر ايجابي كبير يدفعنا نحو انسانية القضية وفهم الابعاد الصحيحة لروح المجتمعات ، عز الدين مناصرة شاعر فلسطيني كبير ( من بلدة بني نعيم قرب الخليل ) وهو صاحب قصدة جفرا الشهيرة وقوافل من القصائد التي تسلب العقل ، يأس من النفاق للسلاطين واختار التدريس في احدى الجامعات الاردنية ، هو من صف ومقام الشاعر محمود درويش رحمه الله ، ولكنه اقلّ حظا منه .
اما الشاعران يوسف ابو لوز ويوسف عبد العزيز فهما يملكان من شظف الحياة وقوة الروح ما يكفي لايقاف عاصمة كاملة على رجليها ، قصائدهما كرّ وفرّ حتى الابد .
امّا صدمتي الكبرى فكانت في حديثي مع الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي ، وكان حينها حصل على جائزة من جلالة الملك الحسين بن طلال ، وكان فرحا بها فدعى الجميع الى العشاء بصحبته ، وكنت حينها قد تخرجّت حديثا من الجامعة ، و تجرأت على سؤاله : لماذا تكتب الشعر ؟ فأجابني انه في ايأم المدرسة في بغداد أحبّ فتاة اسمها فاطمة وكانت تحبّه ويتبادلان النظرات ، ولكنه كان جبانا ولم يبح لها بحبه ، فجاء شاب طائش وباح لها بحبه فذهبت معه ، وان الفتاة رمقت البياتي بنظرة لن ينساها أبدا ، وانه كتب الشعر لخمسين عاما لعله ينسى فاطمة وينسى تلك النظرة فلا يقدر . وان على الحبيب ان لا يكون جبانا ولا ينتظر كثيرا وان يبوح بحبه لان الفرصة لا تعود مرة ثانية .

وانني الان ارى وجها الشبه بين ما قاله البياتي وبين اليسار الفلسطيني ، فاليسار في فلسطين ليس جبانا وقد باح بحبه وملأ الارض بالعاشقين ، وباح بغضبه في كل واد وتحدّى الغاصبين ، وانني ارى تصاعدا شديدا لليسار الفلسطيني هذه الايام ما يثير قضية سوسيولوجية هامة وفريدة ، وكيف ان المجتمعات العربية تتعرض لموجة مدّ هائلة من داعش ، وفي نفس الوقت نرى عودة ظهور يساري قوي في فلسطين وخصوصا الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين . وأن هذا اليسار استعاد ألقه وهيبته من خلال الانتفاضة الراهنة وانه يوقف التمحور المريض بين سنة وشيعة ، فتراهم يحلمون صورا للسيد حسن نصر الله ولا يعترفون بمحور سنة وشيعة ، وانما بمحور قومي واضح يعيد التوازن بين القوى المتصارعة على الدم العربي . كما لوحظ مؤخرا انهم يرفعون العلم السوري وصور بشار الاسد .

قال النقّاد عن الشاعر البياتي حين أصدر ديوان أباريق مهشمة عام 1954 للشاعر انه ( مادح مغالٍ في مدحه ، وقادح مفرط في قدحه ) وتالله اني أرى هذه الصفات موجودة في اليسار الفلسطيني ايضأ .

ومن قرأ قصائد : مسافر بلا حقائب ، وصخرة الأموات ، والمحرقة ، وعشاق في المنفى ، والأفّاق . يلمس أن نفحات من الوجودية تمتزج أحياناً برؤى قصائده الرومانسية موجودة في شعر البياتي ... الذي كتب اول ديوان له عن الملائكة والشياطين ، وبعده أباريق مهشمة ، وبعده الاوغاد .
وفي قصيدة الاوغاد قال :

مهلاً !
هناك !
أرى مدينتهم تنهال في طرقاتها الظلم
مرضى ، وثرثارون ، غائرة أحداقهم ، ومطاعم ، ودم
صبغوا به خوفاً نوافذهم وتقمصوا أسلافهم ، وهمو
للآلة الصماء قد سجدوا وبربها المشؤوم قد حلموا
قالوا : &
39;


ويبقى ان نقول ان المخابرات الاسرائيلية ردّت بكل قسوة وعنف على تصاعد اليسار الفلسطيني ، ولم تكتفّ باختطاف النائب احمد سعدات وعشرات من رفاقه وانما تقتل منهم وتعتقلهم في كل يوم ، تماما مثلما فعلت مع التيار العلماني في فتح عام 2002 حين طاردت مروان البرغوثي ورفاه وحكمت على المئات منهم  بالسجن المؤبد .
ان ما يحدث من تفاعل اجتماعي ( سوسيولوجي ) في هذه الانتفاضة جدير بالاهتمام والتحليل ، لان نهوض اليسار في فلسطين مؤشر على معادلة قادمة ستجتاح العالم العربي من جديد ، وتخلق توزانا واضحا مع الحركات الاسلامية التي اخدت حقبتها وامتدت طولا وعرضا .

اما الشاعر العراقي نصيّف الناصري فقد خدعته السنبلة فقال :

قلت لأبي : اعطني نقوداً لأسكر
فتح فمه فخرج منه أسد جائع
قلت لحبيبتي : اعطني قبلة
فتحت فمها فخرجت منه لبؤة
قلت لآمر سريتي : اعطني اجازة يا سيّدي
فتح فمه فخرجت منه دبّابة .
الأسد الجائع
واللبوة
اصطحبتهما معي في نزهة على الدبّابة
ثم عدت الى السجن مصدوع الرأس .