الجمعة: 19/04/2024 بتوقيت القدس الشريف

جُبران.. ثلاثةُ أعوادٍ تَسحرُ القلوب

نشر بتاريخ: 13/05/2015 ( آخر تحديث: 13/05/2015 الساعة: 18:05 )

بقلم: ربيع دويكات

لا أذكر وأنا أكتب هذه المقالة كم مرة تغيرت عناوينها، وكم مرة تشتت أفكارها، وتناثرت كلماتها لكي لا تصبح شكلاً من أشكال الجحود الفكري في وصف أو نقد مبدعين شباب سبقوا عصرهم بكثير. إن البدء بالكتابة، فيه صعوبة تكفي لما يمكن أن يخرجه الكاتب في أول المقال وآخره، وسر يجر اليه مكامن ضعفنا في الكتابة. فلم يتسنى لي كتابة مقالة تكون على قدر من الكمال في وصف إخوة مبدعين "الثلاثي جبران"، حتى رافقتهم عدة أيام في مدن بورصة واسطنبول في الجمهورية التركية. اسطنبول، التي تقع على الخط الفاصل ما بين حضارات الشرق والغرب، سحرها وبحرها وتاريخها مع أصوات أوتار العود بأنامل فلسطينية يضعك في عالم آخر من الجمال وأحلام الروعة.


إن الاستماع الى مقطوعات الثلاثي جبران، والتعرف على جماهيرهم الواسعة التي تخطت حدود اللغات والثقافات والحضارات بل والعواطف البشرية المختلفة لتجمعها أيقونة واحدة من وتر العود، تجعل المستمع اليهم شديد العشق للموسيقى وللعود بشكل خاص.

لقد جمع الإخوة الثلاثي عشق الفن من الجيل الثالث، بدأتها العائلة بصناعة الأعواد الموسيقية في مدينة الناصرة شمال فلسطين المحتلة، ومن ثم تعلموا ألحانه والعزف عليه، فخرجوا من رحم أم تعشق سماع العود، وأب يهوى صناعتها، ليبدوا جيلاً أكثر تشبثاُ بها وتمرساً على أوتارها عاملاً على تطويعها خدمة للهوية الوطنية، ليمثلوا في نهاية الحلقة قالباً فنياً فريداً باللحن والابداع ليس كمثله فن.

ثلاثة إخوة تنتظرهم الجماهير بشغف كبير، فما أن تطأ أرجلهم خشبة المسرح حتى تعج القاعة بالمصفقين، وتمتلئ فراغاتها بالمعجبين، وبرغم اتساع المكان، فقد يصبح ضيقاً أمام جنون الحضور، كما أيقوناتهم، التي أضحت شجوناً للحب، والذكريات، والوطن، ووله الأرض، وتعابير الثقافة الفلسطينية، واستواء الذكريات الجميلة والحزينة والسعيدة بماضيها وحاضرها. ولا يخلو الخوف من أوتار أعوادهم، إلا أن الأمل دائماً ما يأسر مستمعيه في سجن يغلق أبوابه خلف جنونيات البشر في قتل الأبرياء والفتك بالأوطان، إنه يعيد الأمل لروما من حب نيرون، والقدس من ظلم الاحتلال، ودول عربية من أنهار دمائها السائلة.

معزفاتهم محادثة موسيقية، تحكي قصة حب أو حزن، يبدأها شقيقهم الأكبر "سمير" بدندنات قليلة سريعة عالية متواصلة يستعرض فيها بداية قصة ضمن مقطوعة "شجن"، قد تكون قصة أمل أو قصة حزن أو وطن قصته الأسر، يدخل "عدنان" بنغمات أخرى تضيف للقصة بعداً آخر، يعود "سمير" مؤكداً له بأن القصة ذات قرار، وفيما تتواصل أوتار "سمير" بدرجة منخفضة ومتساوية من الصوت، يقطعه "وسام" ليخرجهم من هذا الجدل ويحفزهم على تحدي واقعهم، وبعد كر وفر، يسهم فنان الإيقاع "يوسف حبيش" في تهيئة ظروف حل العقدة، فيستمر الثلاثة في عزف ألحان متساوية بالصوت والإيقاع. لتنطلق بعدها إشارة البدء لأناملهم باستكمال المقطوعة التي تمنح مستمعها أملاً يلهب حماسة الحضور عبر انسجام كبير وترابط لا ينقطع وتواصل دائم، يدغدغ مشاعر التحدي والخوف. فكل هذه المشاعر تمر من طوق واحد. أما مقطوعة "مسار" فهي تأخذك الى عوالم أخرى من الخيال، والى جو من التواصل المتناغم والاستمرار بالاستماع والاستمتاع، لتقف الجماهير مرات عند البدء بهذه المقطوعة.


ولا يمكننا أن نتصور، أو نصف إحساساً لذكرى طيبة أو حزن دفين أو لهفة لمحبوب، فكل ذلك يتم جمعه في نغمات ومقطوعات موسيقية تزيل التوتر وتذهب غمة الحزن عن كاهل البشر. والسر في معزوفاتهم ليست قصصاً مذكورة، بل إن لكل من يستمع اليهم يشعر بأن هذه المعزوفات تتحدث عن قصته مع الذكرى والوطن والحب والسعادة والحزن والخوف والفقر وغيرها من العواطف، كل واحد منهم يستمع اليها وكأنها تعزف من أجله، وكأن موسيقاهم موناليزية، إحساسها مختلف من شخص لآخر، وهذا قمة ما يمكن للفنان أن يقدمه لجمهوره.

ومن ناحية أخرى، فقد استطاعت موسيقى الثلاثي جبران الحفاظ على استقلاليتها في الحركة الفنية والثقافية العربية بأن جعلت من نفسها موسيقى كلاسيكية متزنة تجمع حولها جماهير من الشرق والغرب في كافة دول العالم من ذوي الإحساس الفني والذوق الرفيع، فلا يمكن اعتبار فرقة موسيقية عربية، تشهد هذا الاقبال في كافة دول العالم ممن لا تعرف ثقافتنا ولا لغتنا، من غير أن تكون قد أثرت في كينونته الداخلية. إن الاستماع الى هذه المقطوعات لها منطق يجر القلوب ولا يجر العقول. إن موسيقى الثلاثي جبران تستعيد لجماهير الفن والموسيقى ذوقها العالي، الذي ينبذ الابتذال والانحطاط الثقافي الذي تشهده المنطقة العربية.

لم أجد كلمة أكثر دلالة من وصف جماهير هذه الفرقة وهم يستمعون اليهم في صالات كبيرة أكثر من شهوة الصمت التي لا تنفك تصبح فرضاً من فروض المتعة في الاستماع لهذه الموسيقى والاستمتاع بها. بل إن هذا الصمت يمسي شغفاً للوصول الى نشوة العواطف الجياشة. فمن أحب الفن والموسيقى واستمع الى مقطوعة "مسار أو شجن، أو سفر" أصبح أكثر عشقاً، ومن كان متعصباً ضد الموسيقى، أصبح مشتاقاً للقاء آخر. فالحفلات التي يقيمها المثلث الفني الفلسطيني، اجتازت حدود اللغات والحضارات لتتركها جانباً وتعبر ألحانهم لتداعب مكنونات البشر.

يمكن لموسيقى الثلاثي جبران أن تعيدنا الى انسانيتنا، الى عواطفنا الأصيلة. ففي ظل الظروف المأساوية التي تعيشها بلداننا العربية، والتي سلبت معها سعادة الملايين ومنحت بعضنا متعة القتل دوماً، وجردتنا من انسانيتنا، واجبرتنا على رؤية أنهار الدماء دون أن يهتز لنا جفن، ربما يمكن لهذه المقطوعات أن "تثأر لنا من الموت"، أن تعيد الذكرى الى الوراء قليلاً، أن تحيي لنا زمناً جديداً يجبر نفسه على الابتسام ولو عنوة.

تمكن الثلاثي جبران من العمل على تطويع هذا الفن في خدمة الهوية العربية الفلسطينية وايصال رسالة وطنية الى كل العالم، فما أن انتهت المقطوعة الأولى في مدينة اسطنبول، حتى صدح صوت أخيهم الأكبر "سمير" ليقول "فلسطين بخير، اطمئنوا، نتمنى أن نراكم في حفلة أخرى في مدينة القدس وفي فلسطين حرة" من غير ان يفصحوا عن جنسيتهم او انتمائهم فهذه الجملة كفيلة بمعرفة هويتهم الوطنية وأصالتهم وانتمائهم الى قضية عادلة. كما انها كفيلة أيضاً بمعرفة محبة هذه الجماهير لفلسطين والقدس وشعبنا، فقد علمهم الشاعر الفلسطيني الكبير "محمود درويش" بأن يكونوا فنانين من فلسطين وليسوا فنانين فلسطينيين، فمن أحبهم، أحبهم لأنهم مبدعون يقدمون فناً راقياً.

إن منطق "الثلاثي جبران" بالفن والموسيقى، يدفعك لاحترامهم أكثر، فهم يعتبرون بأن الفنان المغني، هو الدكتاتور الذي جند الكثير من الآلات الموسيقية في خدمة صوته، بينما هم جندوا آلة "العود" في خدمة الموسيقى، ومنحوه حقه بالوظيفة أكثر بكثير من الفنان. ربما تكون هذه أحد أهم الأسباب التي جعلت من موسيقاهم باباً للحرية ولمعزوفاتهم أن تأخذ دورها في تكريس الثقافة الوطنية للموسيقى، فبينما تحتاج كثير من الأغنيات التي تغنى في العصر الحديث الى مجموعة من الآلات الموسيقية حتى تُمكن صوتاً واحداً من الغناء، استطاع الثلاثي جبران إبهار جماهير كبيرة بجنسيات متعددة وبمعزوفات تدخل مكنونات أحاسيسهم، من غير أن يتحدث، فهو آلة تتحدث كل لغات العالم، فالعود الذي ظهر قبل خمسة آلاف عام، أصبح مع الثلاثي جبران هو الفنان والمنشد والملهم ومخفف الأوجاع.

هناك من القصص الغريبة التي مرت عليهم والتي تجمل عشق موسيقاهم، فبينما يمر الثلاثي جبران في أحد شوارع باريس، إذا بامرأة تنادي من بعيد Trio Joubran. تلتقط معهم صوراً تذكارية لتخبرهم بأنها رفضت أن تخفف من آلام ولادتها في أحد المستشفيات بإبر التخدير، وطلبت من المستشفى أن تضع لها موسيقا جبران أثناء ولادتها، فكيف تصل هذه الموسيقى الى درجة تنسي صاحبها أكبر ألم يمكن أن يشعر به في حياته. أما تركيا، فقد كان جمهورها بنكهة عربية، فالمقطوعات تبث على التلفزيونات والاذاعات المحلية، حتى أنني ما زلت أذكر كيف بدأ يصفق الجمهور طويلاً عند البدء بمقطوعة "مسار" المشهورة على نطاق واسع هناك، حيث تم استخدامها في إحدى المسلسلات المشهورة. وعند زيارة أحد المحلات المتخصصة ببيع الاسطوانات الموسيقية برفقة الإخوة الثلاث في مدينة بورصة، لا يمكن وصف حفاوة الاستقبال، والتعبير عن الاعجاب بهؤلاء الثلاثة وتجمع الناس من حولنا، كيف يمكن لجمهور في مدينة صغيرة بعيدة عن العاصمة التركية أن يعرف هذه الموسيقى، مؤكدين بأن اسطوانات الثلاثي جبران هي من أكثر الاسطوانات مبيعاً في متجرهم، وهو ما يفسر ضخامة هذه الجماهير.

لقد شكلت فرقة جبران العربية، حالة فنية لم يسبق لها مثيل، انطلقت الى العالمية وأضحت صوتاً يختاره الكثيرون جنوناً بهذا الفن، يعزفون مقطوعات في الخوف والسعادة وفي الحرية والإرادة والانسان الذي بات أكثر أي وقت مضى يبحث عن أمل ضائع في عتمة الظلمات وانكسار الأخلاق وتفشي الظلم والسادية.

وقد شكلت مشاركتهم للشاعر الفلسطيني الكبير "محمود درويش" بكلماته إضافة نوعية الى موسيقاهم في مقطوعات شعرية لافته، فخلال ثلاثة عشر عاماً، استطاع الإخوة جبران والشاعر الفلسطيني احتلال قلوب الملايين، في إسهام ثقافي لم يسبق له مثيل، بل واصل الثلاثي جبران عرض مقطوعاتهم مع صوت الشاعر الكبير بعد وفاته، في بادرة تحيي اسمه وصوته وشعره. وفي وقت لاحق رفضوا عروضاً كثيرة من شعراء عرب لمرافقتهم، لأن إخلاصهم لروح الشاعر الفلسطيني الراحل قد طغى كثيراً على مصالحهم الشخصية.

وتقديراً لموسيقاهم، اختار بنك فلسطين، أكبر البنوك الفلسطينية فرقة الثلاثي جبران لتكون الشريك الثقافي للبنك، في سابقة هي الأولى والوحيدة بين فرقة موسيقية ومؤسسة من مؤسسات القطاع الخاص في الوطن العربي، لتصبح الثلاثي جبران وجهاً وشريكا ثقافياً له، وبرغم أنها خطوة تعد بالغة الذكاء لهذا البنك، فإنها خطوة تحسب له لتأتي انطلاقاً من تقديره للمبدعين الفلسطينيين وسفراء الثقافة الفلسطينية والعربية الى العالم.

نتذكر دائما بأن هذه الأعواد أبدعت في رسم صورة ناصعة عن فلسطين، وساهمت في تطوير فن يليق بآلة العود العربي الأصيل، لم تأخذ حقها في الظهور واهتمام وسائل الاعلام المختلفة على المستويين المحلي والعربي والعالمي، وفيما أخذت الكثير من الراقصات والمغنيين والمبتوري الصوت والمغمورين الذين أساؤوا الى الثقافة العربية وفنونها وموسيقاها حصة كبيرة في إعلام مبتذل ومتملق، ساهم العري في إظهارهم كنجوم، كان الثلاثي جبران على قمة الهرم الثقافي العربي، ليقدموا لنا ثروة أدبية ثقافة فنية ملتزمة عبرت حدود الحضارات واللغات والبلدان، وأصبح يقدرها الغرب أكثر ما يقدرها العرب.